لكل هذا، ضمر الإحساس بالزمان وحل محله إحساس متطرف بالمكان وحسب، وتجسَّد هذا في فكرة الأرض التي هيمنت على الوجدان اليهودي الحلولي. كل هذا، جعل أعضاء الجماعات اليهودية طوائف مرشَّحة لأن تفقد حسها التاريخي، وأن تنغمس في التأملات الفردوسية والدراسات التلمودية والحسابات القبَّالية الخاصة بآخر الأيام. وقد كان الجيتو التعبير الحضاري والنفسي عن هذه العقلية التي تتصور أنها تقف خارج التاريخ. ولذلك، كان مثقف الجيتو، أو طالب المدرسة التلمودية، ينفق كل أيامه في دراسة الأساطير اليهودية والدين اليهودي وما يتصور أنه تاريخ اليهود المقدَّس، دون أي اهتمام بالدراسات التاريخية الحقة، سواء كانت التواريخ الحقيقية للجماعات اليهودية في العالم، أم تاريخ الحضارة التي يعيش بين ظهرانيها. ولقد توقفت دراسة العهد القديم هي الأخرى كتاريخ مقدَّس، وحلَّت محلها الدراسات التلمودية الفقهية التي لا يدخل فيها عنصر الزمن بتاتاً، ثم حلت محل الدراسات التلمودية التفسيرات القبَّالىة ذات الطابع الغنوصي المتطرف التي تُسقط التاريخ تماماً وتأخذ شكل بنَى هندسية لا علاقة لها بأي واقع تاريخي أو إنساني متعين، والتي تهدف إلى تعويض اليهود عما يلاقونه من عذاب حقيقي أو وهمي.

لكل هذا، حينما بدأ علم التاريخ بمعناه الحديث في الغرب، ابتداءً من القرن السابع عشر، كان إسهام أعضاء الجماعات اليهودية فيه منعدماً. ولم تبدأ إسهاماتهم في الدراسات التاريخية إلا في مرحلة متأخرة من القرن التاسع عشر بعد أن تآكل الجيتو تماماً، وبعد أن بدأت تظهر شرائح من أعضاء الجماعات اليهودية ممن تلقوا ثقافة علمانية غربية مختلفة تماماً عن الثقافة اليهودية التقليدية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015