ويُظْهر فرويد المقدرة التفكيكية التقويضية نفسها في دراسته للحضارة الإنسانية، فتفسيره لنشأتها لا يختلف كثيراً عن تفسيره لنشأة الفن والدين. فالمدنية تبدأ حين يتفق عدد من البشر على فرض حدود على إشباع الفرد لرغباته. ورؤية فرويد للطاقة الجنسية ـ كما أسلفنا ـ رؤية كمية، فثمة طاقة جنسية محددة في كل فرد وفي كل مجتمع، فإن أشبع كل فرد هذه الطاقة لن يكون هناك مجال للحياة الاجتماعية لكي تستمد من الحياة الجنسية الطاقة الضرورية لتأمين ديمومتها وتأمين تماسك الجماعة. «ولذا تنزع المدنية دائماً إلى وضع حدود لحياة الإنسان الجنسية، فهي في طورها الطوطمي بدأت بتحريم عشق المحارم، ثم تطورت المدنية بتحريماتها وقوانينها وعاداتها لتضع قيوداً جديدة على كل من الرجل والمرأة وهو ما أدَّى بحكم الضرورة الاقتصادية إلى سحب قدر كبير من الطاقة من أصولها الجنسية كإجراء احتياطي صارم. وهو يضرب مثلاً لذلك بحضارة الغرب (أي الحضارة المسيحية) التي بدأت بتحريم مظاهر الحياة الجنسية في الطفولة برغم وضوح مظاهرها، ثم أعقبت ذلك بوضع حدود لحياة الراشدين بما تفرض من قصر الاختيار بينهم على أفراد من الجنس الآخر وبما تحرِّم من ضروب الإشباع خارج العملية الجنسية بوصفه شذوذاً غير مباح. وهي في إصرارها على لون واحد من الحياة الجنسية للناس جميعاً تتجاهل الفروق بينهم ولا يعنيها أن يُحرم عدد قليل منهم من المتعة الجنسية وبذا تُنزل بهم ظلماً اجتماعياً فادحاً. وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل إنه حتى الحب الغيري (أي لأفراد من الجنس الآخر) قد تَعرَّض أيضاً لقيود إضافية بتحريمه خارج الزواج الشرعي وخارج الوحدانية، أي أن مدنية الغرب تقول للناس إنها لا تريد من الحياة الجنسية أن تكون في ذاتها مصدراً للذة وأنها لا تحتملها إلا لعدم وجود بديل لها لبقاء الجنس البشري وحسب» (جرجس) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015