وقد ظهرت مجموعة من المفكرين العلمانيين ممن أدركوا الجوانب المظلمة للاستنارة والجوانب التفكيكية للمشروع التحديثي في الإطار المادي، وممن أيقنوا أن عملية التقدم التراكمية قد اكتسبت حركية مستقلة ولم يَعُد الإنسان يتحكم فيها. وقد عبَّر هذا عن نفسه في موضوع «مأساة الحضارة» الذي عبَّر عنه ماكس فيبر أحسن تعبير، فقد كان يرى أن عبقرية الحضارة الغربية تكمن في اتجاهها نحو الترشيد، ولكنه اكتشف أيضاً أن تزايد معدلات الترشيد تنتهي إلى الترشيد الإجرائي المنفصل عن القيمة وعن الإنسان، والذي ينتهي بأن يُودَع الإنسان في القفص الحديدي التكنوقراطي البيروقراطي، فكأن التراكم الحضاري يؤدي إلى الضمور الإنساني. وهذه النزعة التشاؤمية لم تكن مقصورة على فيبر، بل نجدها في كتابات زيميل وكارلايل وغيرهما، وتم التعبير عنها في مفاهيم مثل التشيؤ والتسلّع والعقلانية التكنولوجية. وإشكالية مأساة الحضارة هي تعبير عن إدراك بعض المفكرين الغربيين قضية تَداخُل العقلانية المادية واللاعقلانية المادية.

وتتضح المادية (بشكلها العقلاني واللاعقلاني) في ظهور النسبية الأخلاقية واختفاء فكرة الإنسان الحر المسئول أخلاقياً، القادر على تجاوز ذاته وتجاوز بيئته. فالجريمة أثر سلبي من آثار البيئة، أو مجرد اضطراب نفسي ناجم عن اضطراب عضوي أو قوى نفسية معيَّنة لا يستطيع الإنسان التحكم فيها. وقد عبَّرت هذه النسبية الأخلاقية عن نفسها في الأخلاقيات السائدة في مدينة فيينا (المدينة التي وُلدت فيها حركة الحداثة الأدبية والفنية) فساد جو من الإباحية وظهرت عدة دراسات تنطلق من الجنس باعتباره المحرك الأول وعن دور الجنس عند الأطفال وأثر الكبت على الصحة العقلية والجنسية. وترددت كلمات مثل «اللبيدو» و «كاثارسيس (تَطهُّر) » .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015