وقد ارتبط بهذا الاتجاه المادي الصارم اتجاهاً تطورياً، فقد كان أتباع مدرسة هلمهولتز يذهبون إلى أن أية وحدة في عالم الكائنات، حيواناً كانت أو إنساناً، هو عضو في أسرة واحدة اختلفت مظاهرها بحكم عملية التطور، وهو تطور طبيعي مادي ولذا «لا توجد أرواح أو جواهر أو صور كاملة، ولا توجد خطط عليا أو أغراض نهائية تؤثِّر في هذا العالم. والطاقات الطبيعية هي وحدها العلل فيما نشهد من معلومات» . كل هذا يعني في واقع الأمر رفض كل ما ليس مادياً رفضاً كاملاً، بالمعنى الصارم والمباشر للكلمة، كما يعني رفض محاولات العقل البشري تجاوز عالم الطبيعة/المادة أو أنسنته عن طريق إسقاط المشاعر الإنسانية عليه. وهكذا يَضمُر الإنساني ويذوي ثم يختفي وتصبح المرجعية الوحيدة هي الطبيعة/المادة، وهي مرجعية كمونية مادية تجعل القوى المادية الكامنة في الطبيعة المحرك الوحيد للتاريخ، وتجعل الصراع من أجل البقاء المادي جوهر الحياة، وتجعل القيم الإنسانية والأخلاقية مجرد مُعوِّقات في طريق التطور الطبيعي/المادي.

في هذا الإطار الطبيعي/المادي تظهر نظرية المنفعة (واللذة) التي تجعل الهدف النهائي، وربما الوحيد، للحياة تحقيق اللذة، كما يظهر مفهوم الحتمية المادية، حجر الأساس بالنسبة للعديد من نظريات وأيديولوجيات القرن التاسع عشر. لكن الحتمية المادية الصارمة تعني في واقع الأمر ظهور الإنسان أحادي البُعد الذي يُحركه عنصر واحد أو عنصران ماديان مثل العنصر الاقتصادي أو العنصر الجنسي. فظهر علم النفس الترابطي الآلي الذي يُفسِّر الإنسان في كليته باعتباره كائناً بسيطاً يدخل بقضه وقضيضه في شبكة السببية المادية الصلبة (وفيما بعد ظهر بافلوف والمدرسة السلوكية تعبيراً عن هذا الاتجاه الاختزالي نفسه) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015