العقل الإنساني، إذن، هو أعمق البنَى عند تشومسكي. وهذا العقل ليس عقلاً سلبياً ولا صفحة بيضاء، كما يرى السلوكيون والتجريبيون، وهو لا يكتسب أفكاره تدريجياً (بشكل تراكمي) من البنية المحيطة به ويدور في إطار أنساق مغلقة مصمتة اختزالية، وإنما هو عقل نشط فعال إذ توجد فيه إمكانات إبداعية وملكات مفطورة كامنة فيه هي أشكال وبنَى قَبْلية تتبع قواعد معيَّنة ذات مقدرة توليدية وتلعب دوراً أساسياً في عملية اكتساب المعرفة. وهذا يعني أن الإنسان لا تتحكم فيه الدوافع الخارجية أو البيئية وأن قدراته الإبداعية التوليدية تمنحه قدراً كبيراً من الاستقلال والحرية. وهذا يعني أن الإنسان يدور في إطار أنساق مركبة مفتوحة.
لهذا نجد أن نقطة الانطلاق عند تشومسكي عقلانية جوانية استدلالية، وليست تجريبية برانية استقرائية، فهو يبدأ من العام والبنية والنمط ومن المعطيات القَبْلية الكامنة في عقل الإنسان ولا يدع العقل يقف على عتبات البيانات والمعطيات الحسية والبراهين الجزئية والبيئة المادية وكأنه شحاذ فقير عاجز، بل يقف كالأمير القوي الذي يعطي أكثر مما يأخذ. ولذا، فإن صياغة الفروض العلمية والنماذج التفسيرية ـ حسب تصوُّر تشومسكي ـ أمر منوط بالعقل والخيال، وليس أمراً خاضعاً للحواس. لكن هذا لا يعني بطبيعة الحال أن الحواس قد تم إلغاؤها، فهي مسألة أسبقية، ونحن هنا أمام ثنائية هرمية يسبق الإنسان فيها الطبيعة، ويسبق العقل فيها الحواس، ويسبق الخيال الفعال فيها التلقي السلبي للمعطيات الحسية.