لكل هذا، يركز البحث البنيوي لا على السمات الخاصة المتعينة للظاهرة الإنسانية أو الأهداف والدوافع الإنسانية، ولا حتى على العلاقات المادية التي تحقق الترابط بين عناصر البنية، وإنما يركز على النسق العقلي الذي يزودنا بتفسير البنية وتحولاتها. ولكن هذا النسق العقلي هو في واقع الأمر نتاج بنية أولية قَبْلية تتجاوزه وتتجاوز كل التفاصيل الإنسانية والمادية. ولذا، فإن علم الأنثروبولوجيا بالنسبة لكلود ليفي شتراوس هو علم العلاقات المنطقية بين الظواهر الاجتماعية أو هو علم دراسة البنية الكامنة والعلاقات البنيوية المختلفة. ومهمة عالم الأنثروبولوجيا هي تحويل الكامن إلى ظاهر والأسرار إلى قواعد منطقية عامة ثابتة، وبذلك تتضح العلاقات البنيوية الكامنة في مختلف الأنساق الاجتماعية.

في هذا الإطار، يحاول ليفي شتراوس أن يثبت أن كل أساطير العالم (وأساطير الأمريكتين بصفة خاصة) إن هي إلا تعبير عن حكمة خفية وما هي إلا أسطورة واحدة في النهاية (على حد تعبيره) . وحاول ليفي شتراوس إنجاز ذلك من خلال نسق تحليلي منطقي صارم يتم فيه تحويل رموز الأساطير واستبدال بعضها بالبعض الآخر من خلال مجموعة معادلات رمزية وجبرية. والأساطير في تصوره تتبع قانوناً عاماً ولذا فهي تقبل التحول إلى معادلات جبرية لأنها بنى اختزالية بسيطة، ولكن الأساطير هي أيضاً المنطق الخفي في كل الحضارات. فهي بمنزلة اللوجوس الذي يمنح المجتمع تماسكه ومعقوليته، ولكنه لوجوس علماني ليس له غرض نهائي، فهو لوجوس بلا تيلوس، مطلق بلا غاية، وميتافيزيقا بلا مسئولية أخلاقية (مثل روايات الخيال العلمي) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015