3 - الباطنية

اصطلاحا: الباطنية لقب شامل لفرق كثيرة، حقيقة اتجاهاتها واحدة، وأزياؤها وأسماؤها مختلفة. وقد اتفق كثير من كتاب الملل والنحل على أن ألقابهم خمسة عشر أشهرها الباطنية، والقرامطة، والإسماعيلية، والمباركية، والسبعية، والتعليميةوالرافضة والإباحية، والملاحدة،، وا لزنادقة، والمزدكية، والبابكية، والخرمية، والمحمرة والخرمندينية، وفى زماننا نجد البابية والبهائية (1).

ولا شك أن الدارسين للملل والأهواء والنحل فى مختلف الكتب والرسائل أمثال الفرق للبغدادى، والملل والنحل للشهرستاتى، والفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم، وتثبيت دلائل النبوة للقاضى عبد الجبار الهمذانى، وفضائح الباطنية للغزالى، وقواعد آل محمد الباطنية لمحمد بن الحسن الديلمى اليمانى. نقول: لاشك أن الدارسين لهذه الكتب وغيرها من كتب المؤرخين والعلماء، واجدون الكثير من حقائق عقائد الباطنية بوجه عام (2).لكن هناك رسالة صغيره (3). لا تزيد عن أربع وأربعين ورقة، كتبها واحد من أصدق فقهاء وعلماء السنة الذين عاشروا الباطنية

فترة طويلة، وهو العالم الفقيه محمد بن مالك بن الفاضل الحمادى اليمانى، أحد فقهاء السنة فى اليمن، فى أواسط المائة الخامسة للهجرة، هذه الرسالة لها خطورتها وقيمتها العلمية حقا وصدقا .. أما اسم الرسالة فهو: كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة. وهو يؤكد لنا (4). فى مقدمة رسالته: إنى رأيت أن أدخل في مذاهبهم لأتيقن من صدق ما قيل عنها من كذبه، ولأطلع على سرائرهم وكتبهم ليعلم المسلمون حقيقتهم وهو يرى (5). أن أشهر ألقابهم الباطنية لزعمهم أن لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويلاً. ويذكر أنهم يعرفون فى العراق باسم القرامطة نسبة إلى حمدان بن الأشعث الملقب بقرمط، وباسم المزدكية أيضاً بالنظر إلى أنهم يدينون بدين الاشتراك فى الأبضاع والأموال، ذلك الذى ابتدعه مزدك في عهد عبّاد الساسانى، ويسمون فى خراسان بالتعليمية والملاحدة، وبالميمونية نسبة إلى ميمون شقيق قرمط، وهو غيرميمون الديصانى القداح، لأنه ليس بفرع بل هو أصل البلاء كله، ويدعون فى مصربالعبيدية نسبة إلى عبيد الله المعروف، وفى الشام بالنصيرية والدروز والتيامنة، وفى فلسطين بالبابية والبهائية، وفى الهند بالبهرة والإسماعيلية، وفى اليمن بالياميّة نسبة إلى القبيلة المعروفة، وفى بلاد الأتراك بالكداشية والقزلباشية، وفى بلاد العجم بالبابية. وأشهر رجالهم حمدان قرمط فى الكوفة وقد خرج للدعوة سنة 264 هـ وأخوه ميمون المبعوث إلى خراسان، وأبوشامة الحسين، وعبدًان، وأبو سعيد بن بهرام الجنابى وقد خرج للدعوة سنة 286 هـ ثم ابناه طاهر الجنابى، وسعيد الجنابى، وابن حوشب، وأبو عبد الله الشيعى، وأخوه أبو العباسى المبعوثان للمغرب للدعوة إلى عبيد الله المهدى، والحسن بن مهران المقنع، وذكرويه بن مهرويه صاحب فتنة الشام والحسن بن الصباح.

والذى لا شك فيه أنه لم يكد يصبح النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى، حتى كانت هذه الدعوة قد انداحت فى العالم الإسلامى وسلكت سبيلها المتمرد على الشريعة وعلى الإسلام، وكان الدعاة يحتالون فى جذب الجماهير العامة، بإظهار الشعوذات والتخريفات أحيانا، وأحيانا بالاستغراقات والشطحات الصوفية .. وكانت أعلامهم بيضاء، فى الأغلب الأعم لزعمهم أن دينهم هو النور الخالص الذى تعرج النفوس إليه بعد طوافها وصدق مطافها -كما يزعمون- مع طاعة الأئمة، حتى نهاية

الحياة على الأرض.

وقد وضع الدعاة وأئمتهم الكبار مخططا (6) موافقا لجميع عوامّ الناس، وكان لهذا المخطط بلاغات سبعة أومراحل سبع، وهى على وجه الإجمال:

1 - مرحلة التدرج: وتمضى على هذا السلم السباعى أيضا لقداسة الرقم فى نظرهم (ا) للعامة (ب) لمن يفوق العامة قليلا. (جـ) لمن استمر عاما كاملا. (د) لمن استمر

سنتين (هـ) لمن استمر ثلاث سنوات (و) لمن دخل فى أربع سنوات (ز) لمرحلة الكشف

الأكبر.

2 - مرحلة السّرية: وهى خاصّة بالدعاة، وخطتهم عدم البوح بالأسرار، وينادى الواحد منهم بالإمام الذى سيظهر ليخلص العالم من الشرور، وعن هذه الفكرة تمذهبت دعوى المهدى المنتظر والرجعة بكل ملحقاتها على أساس من رجعة عزير ابن الله، والمسيح عليه السلام كما يقولون.

3 - مرحلة التفلسف: على أساس استغلال الأفكار وتطبيقها حرفيا. وفي هذا

المقام نجد نطرية العقل الكلى، والنفس الكلية وحلولها فى الناطق والنبى والأساس والإمام،

وهى مقتبسة من الفلسفة الهللينية.

4 - إعداد الدعاة فى زى التّجار والوعاظ والمتصوفة وأرباب الحرف المختلفة

حسب بيئة كل بلد، ومناخه الزراعى والثقافى والفكرى، ومع كل داع مساعدون كثيرون،

ورسالتهم فى بداياتها الأولى تقمّص كل دعوة والتلوّن معها، ثم غرس البذور الجديدة لرسالتهم بعد ذلك على نهج ما يسمونه (بالتفرس والتأنيس والتشكيك والتعليق والربط والتدليس والخلع والانخلاع ثم التأويل).

5 - زعزعة العقائد فى نفوس العامة، وإثارة التساؤلات العقلية حول أمثال الطواف حول الكعبة، أو تقبيل الحجر الأسود، أو رمى الجمار مثلاً.

6 - التأويل بما يتفق والدعوة السرية، على أساس أن التأويل لخواص الخواص منهم، وهم الراسخون فى العلم، أما الشريعة الإسلامية المعروفة فهى للعوام ضعاف العقول كما يقولون.

7 - التطلع الدائم ليل نهار للإمام المنتظَر رجوعه، وعلى بساط الانتظار الطويل للإمام المخلص، تتفجر القلاقل وتدور المذابح ضد الحكام والولاة طاعة للأمر المنتظر وإفساحا للمهدى المنتظر.

وقد وقفت الحركات الباطنية أمام القرآن والحديث بالذات موقفا غُنوصيا واضحا

يعتمد فيما يعتمد على أسلحة التأويل المذهبى والتحريف بما يدعم التأويل ووضع الأحاديث النبوية الكثيرة .. ولا شك أن اليهودية من البداية قد تعاونت تعاونا ضخماً مع الباطنية فى كل حركاتها وسكناتها وفى كل ما نسميه بالإسرائيليات حول كل المدخولات والتحريفات والتأويلات (7).

والذى لا شك فيه أن من ثمرات الباطنية ظهرت رسائل إخوان الصفا التى يقولون عنها وعن أسباب ظهورها للناس أن كثيرا من أئمتهم توجهوا إلى باب العلم: وفى أحمد، ليعرفهم الفرق بين الدين والفلسفة فاستجاب لهم وألف رسائل إخوان الصفا فى اثنتين وخمسين رسالة، وأخفى اسمه لأسباب سياسية ونشره. باسم (همايون) وحروفها بالجمل تساوى (وفىّ أحمد) وهو أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق المتوفى عام 212 هجرية، والواقع أنها من تأليف كثيرين تتباين معارفهم وأساليبهم ومناهجهم، وتتفق فى منهجها مع المناهج الباطنية (8).

أ. د/ عبد القادر محمود

طور بواسطة نورين ميديا © 2015