15 - النَّفْس

لغة: النَّفْس هى الذات والحقيقة، وهى عين الشيء أيضا.

واصطلاحا: لها عدة معان، فقد تطلق على الروح فيقال: خرجت نفسه، أى: روحه، كما تطلق على"العند"، ومنه قوله تعالى {تعلم ما فى نفَسى ولا أعلم ما فى نفسك} (المائد ة 116)، ومعناه: تعلم ماعندى ولا أعلم ما عندك، كما تقال على العظمة وعلى الغيب أيضا، وقد يُمثل له بقوله تعالى {ويحذركم الله نفسه} (آل عمران 28)، وبعضهم يجوز إطلاقها- بمعنى الذات والحقيقة على الله تعالى، مستشهدا على هذا الإطلاق بالآية الكريمة السابقة .. وقد شاع استعمال النفس فى الإنسان خاصة، حيث تطلق ويراد منها: هذا المركب، أو الجملة المشتملة على الجسم والروح، والفقهاء قد يستعملونها في معنى "الدم "، وهو المقصود من قولهم "ماله نفْس سائلة"، أى: دم سائل-وقد وردت كلمة "النفس " فى القرآن الكريم 72 مرة، مفردة ومضافة ومعرفة ومنكرة، إضافة إلى مواضع ثلاثة وردت فيها النفس موصوفة بأوصاف معينة، يفهم منها مراتب أو درجات للنفس، هى النفس الأمّارة بالسوء، والنفس اللوّامة، والنفس المطمئنة. ولأن النفس من عجائب صنع الله تعالى: أقسم بها فقال: {ونفس وما سواها} (الشمس 7).

وتخصص موسوعات الفلسفة الإسلامية- كالشفاء لابن سينا وغيره- مقالات مطولة لدراسة " النفس " دراسة مفصلة، من حيث تعريفها وتقسيمها إلى نفس: نباتية وحيوانية وناطقة، ومن حيث قواها الظاهرة والباطنة، ووحدتها وكثرتها وقدمها وحدوثها إلى آخر هذه الأبحاث التى تأثروا فيها بفلسفة أرسطو أو أفلاطون تأثرا واضحا. وربما انفرد الفلاسفة المسلمون باستعمال خاص فى قولهم بوجود "نفس " للنبات، فلم يعهد فى الاستعمال العربى إطلاق "النفس "، بمعنى القوى المحركة على النبات أو الجماد. وقد ذهب هؤلاء- ومعهم الإمام: الغزالى وبعض الأشاعرة- إلى أن النفس ليست جسما ولا عرضا حالا فى جسم، وإنما هى جوهر مجرد قائم بذاته غير متحيز، وتعلقه بالبدن تعلق تحريك وتدبير فقط.

وكذلك أفرد المتكلمون فى مطوّلاتهم- كالمواقف وشرحه- مراصد ومقاصد لموضع النفس، وتميزت أبحاثهم فيها بنظرة نقدية لمذاهب الفلاسفة المسلمين، فأنكروا دعواهم فى إثبات نفوس للأفلاك تؤثر فى عالمنا هذا كونا وفسادا وسعودا ونحوسا، كما أنكروا مذهبهم فى القول بتجرد النفوس من الجسم والجسمانية، وقد ذهب بعض من المتكلمين إلى أن النفس "جسم لطيف " يسرى فى البدن سريان الماء فى العود الأخضر، ويرى الإمام النووى أن هذا المذهب هو الأصح عند علماء الحديث. وذهب البعض الآخر إلى أن النفس تحل فى البدن كما يحل العرض فى الجوهر. ويذهب أبو البقاء فى كلياته (ص 898)، إلى أن القول بتجرد النفوس لا يتنافى مع شيء من قواعد الإسلام. ويرى ابن القيم (فى كتابه: الروح: 266) أن المذهب الصحيح هو أن النفس جسم علوى نورانى، مخالف بالذات للأجسام المحسوسة، ينفذ فى الأعضاء ويسرى فيها سريان الماء فى الورد، وقد استشهد على صحة هذا المذهب بآيات وأحاديث كثيرة. وعنده أن النفس تطلق فى القرآن على جملة الذات، وتسمى روحا أيضا، والفرق بينهما فرق بالصفات لا بالذات. وبعض العلماء يثبت للحيوانات نفسا مدركة، مستدلين بما جاء فى القرآن عن الطير والهدهد والنمل، والمتأخر ون من النّظّار يفسرون ذلك بنوع من الإدراك مناسب لهذه الحيوانات، وينكرون تفسيره بالنفس أو العلم. وللنفس عند الصوفية إطلاق خاص بهم، فهى تقال على "ما كان معلولا من أوصاف العبد ومذموما من أفعاله وأخلاقه "، ويعدونها مبدأ الصفات الرديئة والأحوال السيئة فى الإنسان، فهى عدوه الأول، بل أعدى أعدائه، ومن ثم كان جهادها هو "الجهاد الأكبر" ويُقسّم الصوفية أوصاف النفس المذمومة إلى قسمين: قسم كسبى، يمثلون له بالمعاصى والمخالفات، وعلاج هذا النوع بالالتزام الدقيق بأحكام الشرع أمرا ونهيًا، وقسم طبيعى جِبِلى يتمثل فى أمراض القلوب وعللها، وعلاج هذا النوع بالمجاهدات والرياضات، فالكبر يجاهد بالتواضع، والحرص بالقناعة، والحسد بالرحمة والشفقة، والشهوة بالعفة والجوع، والغضب بالحلم، والبخل بالسخاء .. الخ وينبه شيوخ التربية الصوفية إلى أن أشد أمراض النفس استعصاء على المجاهدة: رؤية النفس والإعجاب بها، ويعدون هذا النوع شركا خفيا، ولذلك يقدمون مجاهدته على المجاهدات الأخرى، ومن ثم كان كسر النفس عندهم أتم وأنفع من مكابدة الجوع والعطش والسهر. ويتردد كثيرا فى أدبيات التصوف التقسيم القرآنى للنفس إلى: نفس أمَّارة ولوامة ومطمئنة فالأمّارة هى التى، تأمر بفعل السيئات، واللوامة تلوم نفسها كلما اقترفت ذنبا أو اكتسبت خطيئة، ولومها راجع إلى أنها تعرف الصواب، وتعلم أن ما فعلته لم يكن صوابا، بخلاف الأمارة فإنها ترى أن الصواب فيما تفعله لا فيما تتركه. أما النفس المطمئنة فهى التى اطمأنت بالتزام الطاعات والمثابرة عليها "بحيث لا تجد ميلا إلى تركها ولا طلبا لشىء من المعاصى"وبعضهم يضيف مرتبة مستقلة قبل النفس المطمئنة، يسمونها: النفس الملهمة، وهى مرتبة "خواص الأولياء" ويجعلون النفس المطمئنة مرتبة رابعة"لأخص "الاولياء والأنبياء". والنفس روح للبدن، والقلب روح للنفس تحيا به، وروح الإنسان روح للقلب يحيا بها.

وهل الأمّارة واللوامة والمطمئنة نفوس ثلاثة، أو نفس واحدة فى درجات ثلاث؟ والتحقيق فيما يقول ابن القيم- إنها نفس واحدة وأن هذه الأسماء اعتبارات وتحققات تحصل للنفس بالمجاهدة. هذا وقد درس شيوخ التصوف فى تراثهم موضوع النفس دراسة معمقة، وبأنظار تحليلية بالغة الدقة: واستطاعوا أن يغوصوا فى أعمق أعماق البحوث النفسية بكل أبعادها: السيكولوجية، والحسية، والميتافيزيقية، والعرفانية، واستخرجوا فروقا - لا توجد عند غيرهم- بين النفس وبين قوى باطنية أخرى، مثل: الصدر والقلب والفؤاد واللُّب والعقل. ورصدوا خفايا غريبة عن آفات النفس وحظوظها ورعوناتها، ورياضاتها، وحبسها وتزكيتها وصفائها وفنائها، إلى أبحاث أخرى عديدة لازالت مطمورة فى خبايا هذا التراث.

أ. د/ أحمد الطيب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015