5 - لغة القرآن

1 - البرهان الإيمانى على أن لغة القرآن الكريم هى مثل العربية الأعلى بل للغة العربية مطلقا حق صراح مقطوع به، بما أنه {لا ريب فيه من رب العالمين} (السجدة 2) وهذا من الوجهة الدينية مسلم ثابت لا لبس فيه ولا مراء.

وتبقى حجة علماء العربية لإثبات ذلك من طرق علومهم التى أداروها على لغة القرآن الكريم صيانة لها وذبا عنها فى حاجة إلى مزيد من البحث والدراسة، وإكمال ما مهد له الأوائل، حتى يصل الإقناع اللغوى إلى الاقتناع الدينى أو يقاربه.

إن التحدى والإعجاز والعجز عن المعارضة حقائق ثابتة واضحة، وقد أدرك العرب الأقحاح من ذوى اللَّسَن والفصاحة إعجاز القرآن، ثم اختلف علماء العربية وغيرهم بعد فى وجه الإعجاز، وموطنه والمعجز منه، وقام علماء البلاغة فى ذلك بما قعد عنه غيرهم، غير أن جل كلامهم جاء مرسلا يفتقر إلى براهين قاطعة للجدل، كافية للإقناع.

والمتفق عليه فى هذا إثبات الإعجاز بعجز الفصحاء عن المعارضة على طول التحدى مع توافر أسبابها، وقوة دواعيها، وماعداه غير متفق عليه ولا مسلم به ممن خاضوا فى قضية الإعجاز جميعا.

وهذا يسمح بتقرير أن كل عنصر من عناصر لغة القرآن الكريم مازال فى حاجة إلى بحث علمى دؤوب، يكشف عن أسباب امتيازه، ومظاهر سموه على نظيره فى لغة البشر، وما تم فى هذه قديما وحديثا لا يفى بحق القرآن علينا.

2 - نص القرآن على أنه بلسان عربى (النحل/ 103، الشعراء/ 195، الدخان/ 58، الأحقاف/ 12) وأنه ما أرسل من رسول إلا بلسان قومه (إبراهيم/ 4)، واختلاف الآراء فى اشتمال القرآن على بعض كلمات من غير لغة العرب مشهور متعارف، ولا مانع من ذلك بحال ما، ودعوى أن كل ما نسب إلى غير لغتهم مما فى القرآن أخذه غير العرب عنهم أو أنه من اتفاق اللغات تحتاج إلى إثبات لم يقم دليله.

وفى حدود المعروف إلى الآن من أسس الدراسة اللغوية يتعين القول فى طائفة من الكلمات بأن أصولها غير عربية إلى أن يثبت غير ذلك، ولا يعارض هذا أنه بلسان عربى مبين.

وقد ذهب بعض العلماء من التابعين ومن بعدهم إلى أن ما جاء فى القرآن من غير لغة العرب لا يخرج عن ألسنة الأقوام الذين أرسل إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا إعراض فى الدعوى يعارضه الواقع، وتفسير لا حاجة إليه، وتوسع لم تحسب نتائجه.

على أنه لا يصلح التهافت فى عزو كلمة قرآنية إلى لغة سامية سريانية أو عبرانية أو آرامية أو حبشية أو غيرها لاسيما ما يتصل بالأمور الدينية إلا بعد علم يقطع العذر، وتثبت يبرئ الذمة، فالكلمات السامية تراث مشترك، والعربية أكثر أخواتها اتساعا ونموا واحتفاظا بالعناصر اللغوية القديمة، ولم تكن الرسالات السماوية مقطوعة عن العرب وبلادهم قبل موسى وعيسى عليهما السلام.

3 - وفى الصحيح المتواتر من السنة أن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف، والقائلون بأن المراد بهذه الأحرف لغات سبع اختلفوا فى تعيينها وفى خصوصية العدد، كما اختلف الذين حصروا ما وقع فى القرآن من غير لغة قريش أو الحجاز فى عدد هذه اللغات، وفى عزو بعض هذه الكلمات إلى لغة بعينها.

ومن الحق أن يقال: أنزل القرآن فى جملته بلسان قريش ثم الحجاز، ثم شذرات متفرقة، وكلمات متناثرة مفردة من لغات العرب الأخرى، إلى نوادر استعملها العرب وأصلها غير عربى.

ولقد ذهب جمهور المتقدمين إلى أن قريشا أفصح العرب لسانا، وأعلاهم بيانا، وأنهم الذين أنزل القرآن- أغلبه- بلغتهم، وقد كانوا فى هذا المذهب على إرث صحيح من العلم، وقرب عهد يسلم لهم صحة الحكم، وهذا ما يشهد له القياس، وتتظاهر على تأييده الأدلة من مختلف الجهات، ولا ينكر منها أنه أتيح للغتهم من أسباب العلو والسيادة والرقى ما لم يتح لغيرها من لغات العرب قبل نزول القرآن وبعده.

وقد نازع بعض المحدثين فى أن لغة قريش أفصح لغات الغرب، وبنوا ذلك على فروض لا برهان عليها إلا الحدس والتخمين والظن الواهن، وليس الخبر كالعيان. فكيف بظن أو حدس أو تخمين!!

كما نازع فريق من المستشرقين فى أصالة الإعراب فى العربية، وفتن بعض العرب بادعائهم، وهذا نزغ موجه إلى صميم لغة القرآن، ونزاعهم مدخول نقضه العدول من المستشرقين وغيرهم، وتدحض لغة القرآن الكريم وما قدر لها من حياطة وعناية وحفظ كل شبهة أو فرية فى هذا الباب.

4 - جمهور ما فى القرآن واضح محكم جلىّ، وفيه متشابه حار فيه العلماء، وفيه غريب ومشكل اجتهد العلماء فى الكشف عن المراد، وفيه عام وخاص، ومطلق ومقيد ومجمل ومبين وقد يدخل بعض هذه على بعض.

وفيه أبنية وكلمات مفردة لم تتكرر وجمهرته على غير ذلك تتكرر الأبنية والكلمات فى سياقات متعددة مكونة صورة رائعة بديعة، ونسجا محكما قويا من البيان السامى والبلاغة الرفيعة التى لاتجارى.

والظن أن ما فيه من غير الشائع بناء أو كلمة، غريبا أو مشكلا يشتمل على مادة لغوية ترجع إلى اللغة الأولى، ربما إلى ما قبل انشعاب الساميات، وربما إلى ما قبل انشعاب اللغات.

وما تزال هذه الأمور فى حاجة إلى دراسة أصيلة تتجاوز حكاية الآراء، وتصل ما توقف

من جهود السلف فى دراسة لغة القرآن من جوانبها جميعا.

إن الاختلاف فى حد الكلمة يجعل من الصعب الإفادة الصحيحة بعدد كلمات القرآن الكريم، أو التعديل على إحصاء بعض المتقدمين على الثقة ببذلهم أقصى الوسع فى الدقة والتحرى، وخلاصة جهودهم فى هذه الناحية يلخصها السخاوى فى قوله: "ثم إنى رأيتهم قد اختلفوا فى عدد الكلمات والحروف، فلم يحصل من ذلك حقيقة يقطع بها" (?).

وتبلغ هذه الكلمات حسب ما تضمنه معجمان حديثان (2) (137458) ثمانيا وخمسين وأربعمائة كلمة وسبعا وثلاثين ومائة ألف، تضمن معجم الألفاظ (52015) كلمة ومعجم الأدوات والضمائر (85443) كلمة وقد فات هذا المعجم مواضع.

5 - إن الشواهد على دهشة العرب عند سماعهم القرآن أجل من أن تدفع والتسليم بأن القرآن الكريم أضفى على العربية حياة جديدة حقيقة قائمة لكن لم تظاهره دراسات تتقصى مظاهر هذا البعث الجديد، وتوليها من البحث ما هى جديرة به، وما كتب فى ذلك قديما وحديثا خطرات تحتاج إلى تعميق وإكمال.

وليست العربية بعد القرآن هى العربية قبله لفظا ولا معنى. والنظر العارض فيما اشتملت عليه مصادر اللغة- معجمات وغيرها- من كلمات هجرت وماتت ورصد لأوزانها ودلالاتها، وفى تسلسل الحروف والحركات فى الكلمات، وتتابع الكلمات فى الجمل، وترابط الجمل فى الخبر والقصة والحكم، والكشف عن تنسيق هذا كله ووقوعه فى مواقعه، وخصائصه فى السياق وأخذ بعضه بحجز بعض وعلاقة ذلك بالمعنى يظهر مدى السمو الذى ارتقت إليه العربية فى القرآن وبه عذوبة فى تآلف الأصوات، وسلاسة فى صياغة الكلمات، وإحكاما فى رصف الجمل وعناصرها واستجماع كل عنصر أبلغ أوضاعه وأنسبها للسياق والمقام.

وفى المعنى ما شئت وضوحا وثراء وجمالا وكمالا وجلالا. ونفخ ذلك كله على العربية فى غير القرآن. وجمله الأغراض التى يسفر عنها تتبع العربية قبل القرآن فى المأثور من كلامهم شعرا ونثرا فى الخطب والوصايا والحكمة والوصف والحكاية وما إلى هذا لا تقاس بحال بما آل إليه أمرها فى القرآن الكريم وبه، وأين لغة قوامها ثقافة محدودة لقبائل بدوية متنافرة متناحرة، همها البحث عن الماء والمرعى وما يقيم الأود، وفخرها بالغارة والسلب والأسر، عقائدها وثنية، تئد البنات وتنتهك الحرمات من لغة هى قوام حضارة راقية خالدة لاتسامى، سعدت بها البشرية حقبة من الدهر، وهى مؤهلة للوفاء بحاجاتها وأسباب سعادتها إلى ما شاء الله.

6 - وبعد فلست واجدا من كلام البشر منظومه ومنثوره ما يسلسل فى طرق الأداء الممكنة تحقيقا وترتيلا وتدويرا وحدرا تؤدة إسراعا، على اختلاف المؤدين والسامعين، ثم تجد له من الخفة على اللسان والعذوبة فى الآذان، مؤانسة النفوس، وطمأنة القلوب، وراحة الأرواح ما أنت واجد للغة القرآن الكريم، فلله هو‍! ما أكرمه وأحكمه {تنزيل من حكيم حميد} (فصلت 42).

أ. د/ محمد أحمد خاطر

1 - جمال القراء وكمال الإقراء- على بن محمد السخاوى (643هـ) تحقيق د/ على حسين البواب، ص 231 ط (?) المدنى- القاهرة 1408هـ/ 1987م- نشر: مكتبة التراث- مكة المكرمة.

2 - الإتقان فى علوم القرآن: 1/ 197/198 - للسيوطى عبد الرحمن بن الكمال (849 - 911هـ) تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم ط (?) المشهد الحسينى 1387هـ/ 1967م، ومقدمة كتاب المبانى- لمجهول- فى: مقدمتان فى علوم القرآن ص: 231، 2246، 248، 250 - نشر: أرثر جفرى ط (2) دار الصاوى- القاهرة- مكتبة الخانجى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015