4 - اللغة

لغة: أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم كما فى الوسيط (1).

واصطلاحا: اللغة مطلقا: نظام رمزى عرفى من الأصوات الصادرة عن جهاز النطق الطبيعى للإنسان، يعبر إراديا مع ما يصاحبه أو يلابسه عن غرض أو حال. تنسق هذه الأصوات فى سلاسل من المفردات والتراكيب والجمل التى ترتبط ارتباطا وثيقا بمدلولاتها من الأعيان والمعانى والأفكار المجردة والأحداث والأحوال، ويتم هذا وفق ضوابط خاصة تتفاوت من مجتمع لغوى لآخر.

ويشمل الحد السابق للغة ما يسمى "لهجة" أيا كان التصنيف الذى ينظم اللهجات، لغويا أو اجتماعيا أو إقليميا، فهذه جميعا واحدة بالحقيقة متعددة بالاعتبار.

ولقد استخدم الإنسان- ومازال- وسائل متنوعة للتعبير والتفاهم غير اللغة، وأصبح بعض هذه الوسائل عرفيا مصطلحا عليه كنظم: الإشارة للصم والبكم، والإشارات الصوتية، والضوئية، وإيقاع الطبول، والموسيقا، والصفير، والرقص، وإيقاد النيران والرسم، والرموز العلمية المحددة لعلم ما.

وأدرك من قديم أن للكائنات الأخرى وسائلها فى الاتصال وإظهار الرغبات، وإطلاق "اللغة" على بعض هذه الوسائل ضرب من التوسع والمجاز، لا أنه لغة حقيقة.

والثابت إلى الآن أن اللغة خاصة إنسانية، لا يشاركه فيها غيره من المخلوقات، والدراسات التى تمت على وسائل الاتصال لدى الحيوان والطير والحشرات، لاسيما الشمبانزى، والدلفين، والنحل، وموازنتها بلغة الطفل، وموازنة مستوى ذكائها بذكائه انتهت إلى النتيجة السابقة.

أما لغة المخلوقات غير المنظورة من الملائكة والجن فلا نعلم شيئا عن حقيقتها، والظاهر من أخبار الكتب السماوية أنهم يخاطبون كلا من البشر بما يتكلم به عينه، وأن ذلك منهم يصدر عن قدرة خاصة زودهم بها سبحانه وتعالى.

وقد شغلت اللغة وقضاياها الإنسان منذ أقدم العهد به إلى الآن، لاسيما أصلها ومصدرها.

ويميل الجمهور من أتباع الديانات السماوية ومن يعولون على السماع إلى أن اللغة منحة من الله للإنسان، صاحبت خلقه الأول فى غير هذا الكوكب، واستمرت معه حين هبط إلى هذه الأرض، وأنها كانت واحدة فى الأصل ثم اختلفت وتنوعت كما اختلف بنو الإنسان وانقسموا فى كثير من أمورهم على نحو ما نشهده الآن.

ويجنح كل فريق من هؤلاء إلى أن لغته كانت هى الأولى ذات الأصل الإلهى وأن لها من القداسة ما ليس لغيرها تبعا لذلك.

ويميل العقليون إلى أن اللغة من صنع الإنسان وابتكاره، وأنها نشأت متأخرة عن وجوده الأول، وأن اللغات التى نعرفها الآن تطورات للغات سابقة تواضعت عليها الجماعات البشرية القديمة، ومن المحتمل أن تكون بدايتها محاكاة وتقليدا، أو مواضعة واصطلاحا، ثم تعددت بعد ذلك.

أما الماديون الطبيعيون فقد فسروا نشأة اللغة وتنوعها بما فسروا به نشأة الإنسان وتنوعه، وحاولوا الرجوع باللغات المعروفة الآن إلى الصور الجرثومية الأولى التى ظهرت فيها، والكشف عن الحفريات اللغوية التى تصل مراحل تنوعها ورقيها، وذهبوا فى ذلك مذاهب شتى.

ولم يمنع الإخفاق فى الوصول إلى نتيجة مقبولة فى هذه القضية، ولا إعلان كثير إخراجها من نطاق البحث العلمى من معاودة النظر فيها، ومازالت أحدث الاتجاهات والنظريات فى دراسة اللغة تحاول الكشف عن الملكة أو الغريزة التى زود بها الإنسان، وبها كانت اللغة خاصة إنسانية.

وتحتفظ اللغة على تتابع العصور وتنوع الحضارات بقيمتها ومكانتها. فهى المظهر المادى للوجود الحقيقى للإنسان، فحين يفنى الأفراد وتتدثر الجماعات لا يبقى منها ذا قيمة إلا ما حفظته اللغة.

وهى القوة الخفية التى تحرك الأفراد وتوجه المجتمعات، وتعى الحضارات، وبكلمة يسعد الإنسان أو يشقى، ويؤمن أو يكفر، ويلقى الثواب أو العقاب، وبالكلمات تقوم الأحكام، ويموج العالم أو يطمئن.

وقد حظيت اللغة بعناية الأمم والجماعات قديما وحديثا، لاسيما أصحاب الديانات والحضارات.

واكتشاف الكتابة لاسيما الصوتية من قبل الأمم القديمة فى مصر والصين والعراق وفينيقية دليل قاطع على إخضاعهم اللغة للدرس، وتمكنهم من تحليلها والوقوف على عناصرها، وإذا كانت معلوماتنا عن دراسات هؤلاء للغة غير كافية لمعرفة جوانبها وطبيعتها فإن ما وصلنا عن الهنود والإغريق والعرب وما أقاموه على اللغة من علوم يمثل أساسا ومعينا تبنى عليه الدراسات المعاصرة، ويتزود منه المحدثون، وثبات هذا الموروث مازال أرسخ من كثير من النظريات الحديثة التى تجاوزها البحث اللغوى سريعا على كثرة ما طرح من هذه النظريات.

ومنذ أتيح للغربيين الاطلاع على لغات الأمم والشعوب الأخرى حية وبائدة ازدادت مناهج البحث عمقا وأصالة وتنوعا، وطمحت إلى أن تضع منهجا أو نظرية تحتوى اللغات جميعا لا تقتصر على شعبة أو لغة دون أخرى وتعاقبت تترى مقارنة تاريخية ووصفية وبنائية وتحويلية توليدية، وتعددت أسس هذه المناهج والنظريات ومنطلقاتها.

ومنذ أوائل القرن العشرين قوى الاتجاه إلى أن تكون دراسة اللغة علمية بحتة كما هو الشأن فى العلوم المادية التجريبية، وأن يقوم عليها علم مختص بها، قابل للتفرع له ما لأى علم آخر من موضوع ومباحث وأهداف ومناهج. ويطبق ما تتبعه هذه العلوم من خطوات وأدوات: إحصاء وتصنيفا ووصفا وتحليلا وتجربة واستنتاجا واستقامة بما يمكن من الأجهزة والآلات، وتفردا فى المنهج الذى يستنبط من اللغة ذاتها. ويتمتع بالخصائص والسمات التى يتمتع بها أى منهج لعلم مادى تجريبى من موضوعية واقتصاد وشمول وترابط ووضوح إلى ضوابط وقوانين مستنبطة من موضوع الدراسة تلخص نتائجها وتفسر ظواهرها.

وقد اتجهت جهود اللغويين حقبة إلى الكشف عن اللغة الإنسانية الأولى، وهدفت- ومازالت- إلى وضع علم عام يصلح لدراسة اللغة أى لغة كما هو الشأن فى علوم الطبيعة. وشغل بعض الفلاسفة وأنصار الأخوة الإنسانية بالدعوة إلى لغة عالمية يتفاهم بها البشر جميعا، تذيب ما بينهم من فوارق وخلافات تسببت فى شقائهم. واصطنعت بعض هذه اللغات. ويتوقع كثيرون أن تؤدى مظاهر التقارب وإلغاء الحواجز بين البشر التى تشهد كثيرا منها الآن إلى ظهور هذه اللغة العالمية يوما ما.

وهكذا تبقى اللغة بداية ونهاية وما بينهما تتحدى الفكر الإنسانى، وأساسا راسخا فى شقاء الإنسان وسعادته. وشطرا من وجوده الحسى والمعنوى لا تستقيم دونه الحياة.

أ. د/ محمد أحمد خاطر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015