فلسطين التى تنسب لها هذه القضية، هى أرض باركها الله سبحانه، بأن جعل فيها المسجد الأقصى فى بيت المقدس، وأسرى بعبده محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين إليه من المسجد الحرام وعرج به منه إلى السماء ليرى من آيات ربه الكبرى، وبارك حوله، وهى الأرض التى بعت الله فيها عيسى ابن مريم وعددا من النبيين، وعاش فيها أبو الأنبياء إبراهيم خليل الرحمن، عليهم جميعا صلوات الله وسلامه. وفلسطين هذه تشكل الشطر الجنوبى الغربى من بلاد الشام وتجاورجزيرة العرب ومصر.
والقضية الفلسطينية مصطلح برز قانونيا منذ عام 1336هـ، عام 1917 م، حين احتلت بريطانيا فلسطين ودخل الجنرال اللنبى مدينة القدس يوم 18/ 12 /1917 قال كلمته "الآن انتهت الحروب الصليبية". ويدل هذا المصطلح على جميع ما يتصل بفلسطين، شعبا وارضا، وحضارة وهى تواجه مع وطنها العربى ودائرة حضارتها الإسلامية تحالف قوى الهيمنة الغربية، القارونيين الجدد، مع الصهيونية العنصرية فى غروة لها بغية اغتصابها وجعلها "وطنا قوميا لليهود" على حد تعبير تصريح بلفور، وقاعدة استعمارية استيطانية عنصرية للتسلط على الوطن العربى بخاصة والعالم الإسلامى بعامة.
كانت بريطانيا قد ركزت أطماعها على فلسطين والأقطار العربية فى الدولة
العثمانية منذ أوائل القرن الثالث عشر الهجرى مطلع القرن التاسع عشر الميلادى، إثر انتصار بلاد الشام ومصر على الغزوة الفرنسية التى قادها نابليون بونابرت، وعمدت فى نهاية ذلك القرن إلى تشجيع إقامة الحركة الصهيونيهة عام 1897م ومساعدتها فى تهجير اليهود إلى فلسطين كما قامت عام 1916م/1335هـ، بإبرام اتفاق سايكس بيكو مع فرنسا لتجزئة بلاد الشام واستعمارها، متنكرة لوعودها للشريف حسين باستقلال بلاد العرب، ولم تلبث حكومة بريطانيا أن أصدرت يوم 2/ 11 /1917 تصريحا بالعمل على جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود. وقامت بريطانيا بعد انهيار الدوله العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى باستعمار فلسطين تحت اسم "الأنتداب" الذى قررته عصبة الأمم فى 24/ 7 /1922م وأقرت له "صكا" لتنفيذ التصريح، وباشرت بريطانيا استعمارا قمعيا ظالما وحشيا غير إنسانى استهدفت به شعب فلسطين العربى بغالبيتة المسلمة والمسيحية.
القضية الفلسطينية إذا فى ضوء ماسبق هى قضية جهاد الشعب العربى الفلسطينى لتحرير وطنه المحتل، فلسطين الذى رسم "الانتداب" حدودا سياسية له تفصله عن بقية أقطار بلاد الشام ومصر، وتبلغ مساحته حوالى سبعة وعشرين ألف كيلو مترا مربعا، وقد برزت فيه عوامل دينية وحضارية وقومية واستراتيجية، وأبعاد محلية واقليمية ودولية.
استمر هذا الجهاد طيلة مرحلة الاستعمار البريطانى الذى انتهى يوم 15/ 5 /1948م وواجه فيه الشعب العربى الفلسطينى العدو المزدوج بريطانيا والحركة الصهيونية، مدافعا عن بيت المقدس والوطن والعرض والمال وحضارته العربية الإسلامية والدين. واتبع فيه مختلف الوسائل القانونية والسياسية والانتفاضات والثورات التى منها ثورة البراق عام 1348هـ، عام 1929م وثوره القسام بعدها بأربع سنين والثورة العربية الكبرى بين عامى 1335،1337هـ/1936،1938م وقد حظى هذا الجهاد بمساندة أبناء الأمة العربية والعالم الإسلامى الذين أدركوا أن تحالف قوى
الهيمنة الغربية والصهيونية لم يستهدفوا فلسطين لذاتها فحسب، وإنما للسيطرة على الوطن العربى وديار الإسلام بعامة. وتجلت هذه المساندة فى صور، كان منها إنعقاد المؤتمر الإسلامى فى بيت المقدس عام 1350هـ الموافق 1931م، وكان منها أيضا مشاركة مجاهديه فى الثورة العربية الكبرى.
وكاد هذا الجهاد أن يحقق بعض أهدافه لولا نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939م، وبروز قوى الهيمنة الأمريكية التى تبنت الحركة الصهيونية. وكان للولايات المتحدة دور خاص فى صدور قرار الأمم المتحدة الخاص بتقسيم فلسطين يوم 29/ 11 /1947م، ثم فى إقامة "إسرائيل" فى 15/ 5 /1948 م، خدمة للمصالح الأمريكية المتنامية فى الوطن العربى والعالم الإسلامى المتعطلة، للسيطرة على النفط بخاصة.
مرت القضية الفلسطينية بمراحل بعد إقامة دولة إسرائيل، امتدت واحدة منها بين عامى 1948م و1967م، وشهدت تدعيم الكيان الصهيونى بالمهجرين اليهود وبالسلاح، وتوظيف قوى الهيمنة الغربية فى مقاومة ثورة التحرير فى الوطن العربى والعالم الإسلامى، وأحد تجليات ذلك العدوان الثلاثى على مصر عام 1956م الذى دبرته بريطانيا وفرنسا وشاركت إسرائيل فى تنفيذه. كما شهدت هذه المرحلة استمرار جهاد شعب فلسطين العربى للتماسك بعد النكبة التى حلت به عام 1948 م من جهة ولإبراز كيانه من جهة أخرى. وقد قامت منظمة التحرير الفلسطينية تجسيدا لهذا الكيان فى 28/ 5 /1964 م بدعم من الدول العربية.
ومرحلة أخرى امتدت منذ نكسة حرب يونيو حزيران عام 1967م حتى زلزال الخليج عام 1991م وبرزت فى هذه المرحلة قضية الأراضى العربية التى احتلتها إسرائيل فى سيناء المصرية والجولان السورية إلى جانب القضية الفلسطينية التى دخل فيها احتلال إسرائيل لبقية فلسطين (الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة).
وشهدت هذه المرحلة حرب رمضان لعام 1493هـ عام 1973م كما شهدت قيام "إسرائيل" باحتلال شريط فى جنوب لبنان عام 1978م وبغزو الجنوب اللبنانى عام 1982م وبرزت منذ ذلك الحين المقاومة اللبنانية المباركة واستمرت الثورة الفلسطينية فى هذه المرحلة، وحدثت الانتفاضة فى آخر عام 1978م وشهدت المرحلة إبرام اتفاق كامب دافيد بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية عام 1978 م الذى أوصل إلى إبرام معاهده السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979 م.
المرحلة الراهنة فى القضية الفلسطينية بدأت بعد زلزال الخليج بانعقاد مؤتمر مدريد يوم 30/ 10 /1991م الذى باشر ما أسمته الولايات المتحدة الأمريكية "عملية سلام الشرق الأوسط" وشهدت هذه المرحلة اعتراف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية "بإسرائيل" فى 9/ 9 /1993 وإبرام اتفاقات
أوسلو بإقامة "حكم ذاتى انتقالى فلسطينى محدود فى الضفة الغربية وقطاع غزة" وإبرام الأردن معاهدة سلام مع إسرائيل فى 26/ 10 /1994م.
وباتفاقات أوسلو انحصرت القضية الفلسطينية فى مسائل أربع تتعلق بما أسمته الولايات المتحدة الوضع النهائى، هى القدس والمستعمرات الاستيطانية الصهيونية فى الضفة والقطاع واللاجئون والحدود كما شهدت هذه المرحلة المحاولة الأمريكية لإقامة "نظام الشرق الأوسط" فى دائرة الحضارة الإسلامية بقيادة إسرائيل.
دلائل كثيرة تشير إلى أن "عملية سلام الشرق الأوسط" حتى وإن وصلت إلى إبرام إتفاقات بشأن هذه المسائل الأربع، فإن القضية باقية وتدخل مرحلة جديدة يأخذ فيها الصراع العربى الصهيونى شكلا مختلفا عما كان عليه طوال القرن الأول وذلك لأن "الحل العنصرى" للقضية الذى صممته قوى الهيمنة الأمريكية مع الصهيونية لم يعالج جوانب القضية بل جعلها تتفاقم، وبخاصة فيما يتعلق ببيت المقدس الذى يستهدف هذا "الحل العنصرى" تهويدها وينذر بوقوع جريمة هدم المسجد الأقصى فيها واقامة هيكل فى موضعه. وهكذا فإن من المتوقع أن تستمر القضية الفلسطينية وتدخل مرحلة أخرى فى صراع النفس الطويل التى تخوضها الأمة العربية والشعوب الإسلامية ضد قوى الهيمنة الغربية والصهيونية العنصرية إلى أن
يتم تحرير فلسطين والقدس وينبذ اليهود الصهيونية فيعيشوا مستأمنين فى ظل الحضاره العربية الإسلامية.
أ. د/أحمد صدقى الدجانى