القرامطة: فرقة من الشيعة الباطنية المتطرفة، كانوا يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض، وصرح أبو الفرج ابن الجوزى بأنهم فرقة من الزنادقة الملاحدة من الفرس الذين يعتقدون نبوة زرادِشت ومَزْدَك. ويقال لهم: الإسماعيلية، لانتسابهم- كذباً- إلى إسماعيل بن جعفر الصادق (ت 143هـ/ 760 م). أما تسميتهم بالقرامطة، فهى نسبة إلى حمدان قِرْمِط بن الأشعث البقار، وهو رجل نشيط من دعاة الباطنية- كان فى مشْيِه قرمطة، أى تقارب خُطًى- وكان يعمل فرِّانا فى سواد الكوفة، وكان يدعو إلى إمام من أهل البيت! (1).
إن أول ظهور فعلى للقرامطة على مسرح الأحداث كان فى سنة 286 هـ/899 م، على يد أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنابى (2). الذى خرج إلى البحرين، فأقام بها تاجرا يبيع الطعام، وانضم إلى دعاة الشيعة بالقطيف وظهر بينهم، حتى تغلب على أمرهم، فاستجابوا له، والتفوا عليه، فصار أميرهم، وانتشر ذكره فى البحرين، وكثر أتباعه، وقويت شوكته جدا، ومن ثم أخذ يعيث فى الأرض فساداً، فقاد أتباعه للإغارة على بلاد هَجر سنة 287 هـ/900 م، فتغلبوا عليها جميعا، وقتلوا مالا يحصى من أهلها، وسَبَوْا، وأفسدوا، فجهز الخليفة إليهم جيشا كثيفا، فتمكن القرامطة من أسرهم جميعا، ثم قتلهم أبو سعيد، وأبقى على حياة قائدهم- العباس ابن عمرو الغَنوى- ثم أطلقه، وقال له: ارجع إلى صاحبك (الخليفة العباسى) فأخبره بما رأيت!؟ (وكان لهذه الوقعة صدى خطير لدى جمهور الناس؛ فهمَّ أهل البصرة بالجلاء عنها هلعا وفزعا من خطر القرامطة القريبين منهم، فهدّأ والى البصرة من روعهم، وقام بتحصين سور المدينة، وتقويته، فعدل الجنابى عن مهاجمتها (3).
استولى القرامطة على البحرين والأحساء، واتخذوا من هجر قاعدة لهجماتهم على بلاد الخلافة العباسية وقوافل الحجاج، وارتكبوا خلالها فظائع وشناعات روعت المسلمين ترويعا شديدا، ومنعت الكثيرين من أداء مناسك الحج فى بعض الأعوام خوفا من التعرض لهجمات القرامطة المفاجئة.
وعلى الرغم من القوة البادية للقرامطة، التى مكنتهم من هزيمة قوات الخلافة فى كثير من المواجهات التى وقعت بين الطرفين، وأتاحت لهم الاستيلاء على بعض البلاد العراقية والحجازية والشامية والمصرية، على الرغم من ذلك فإنه لم يكن للقرامطة دولة بالمعنى الدقيق، إنما كانوا قوة عسكرية غاشمة، تعتمد فى استمرار وجودها على تلك الغارات المباغتة التى تشنها على البلاد المجاورة، أو مهاجمة القوافل- وبخاصة قوافل الحجاج- وتحصل من هذه وتلك على الغنائم والأسلاب، فترجع بها إلى قواعدها فى البحرين والأحساء ومن ثم تساعدها على البقاء إلى حين (4).
وفى عامى 289، 290 هـ/902، 903م، ظهر القرامطة فى بلاد الشام تحت قيادة زكرَوَيه بن مِهْرَوَيْه واجتاحوا من تصدى لهم من قوات العباسيين والطولونيين، وعاثوا فيها فساداً، وقتلوا من أهلها مالا يُحصى كثرة، ونهبوا الأموال، وأحرقوا الديار والأثاث، ثم دارت الدائرة عليهم بعد ذلك حين انطلقت الجيوش العباسية من العراق لقتالهم بقيادة محمد بن سليمان الكاتب والحسين بن حمدان، فانهزم القرامطة، وقُتل منهم خلق كثير، وأُسِرَ عدد كبير، وفر هارباً من بقى منهم- وهم قليل- إلى قواعدهم فى شرق الجزيرة العربية. (5)
ظل أبو سعيد الجنابى على رأس القرامطة نحو خمسة عشر عاماً، حتى قتله خادم له سنة 301 هـ/913 م، فتولى أمرهم ولده: أبو طاهر سليمان بن الحسن بن بهرام الجنابى، وامتدت ولايته عليهم إلى سنة 332 هـ/944 م. ويُعد أبو طاهر أقوى رؤساء القرامطة، وأطولهم عهداً، وأشدهم خطرا على الخلافة العباسية، وعلى المسلمين فى المنطقة عامة، وحجاج بيت الله الحرام على وجه الخصوص.
وحين آلت إليه قيادة القرامطة، كتب إليه الخليفة العباسى المقتدر رسالة رقيقة، ورغبه فى طاعته، وطلب منه إطلاق الأسرى الذين تحت يده، فأطلقهم، وأكرم رسل الخليفة (6).
وفى عام 311 هـ/923 م انقض القرامطة على مدينة البصرة فنهبوها، وسبوا أهلها، وطلب أبو طاهر الجنابى من الخليفة ضمها إلى ولايته هى والأهواز، فرفض ذلك الطلب، فأغار القرامطة فى العام التالى على الكوفة، واستباحوها ستة أيام، وحملوا ما استطاعوا من أموالها ومتاعها، وعادوا إلى بلادهم، فضج الناس فزعاً منهم، فسير إليهم الخليفة المقتدر جيشا كبيراً، فهزمه أبو طاهر وأتباعه وشتتوه، واستولوا على الرحبة والرقة فى شمال الشام (7).
وفى سنة 315 هـ/927 م، كانت جولة أخرى من القتال بين القرامطة وجيوش الخلافة العباسية انتصر فيها أبو طاهر ورجاله- وكانوا نحو ألفين وسبعمائة مقاتل- على القائد العباسى يوسف بن أبى الساج وعشرات الألوف من الجنود، فى معارك قرب الكوفة والأنبار، حتى اقتربوا من العاصمة بغداد، وقتل القرامطة يومئذ كثيرا من الجند وأسروا الألوف، حتى تعجب الخليفة المقتدر، حين بلغته أخبار هزيمة جيوشه فقال: لعن الله نيفاً وثمانين ألفا يعجزون عن ألفين وسبعمائة!! (8).
أما الذى لا يمكن أن ينساه المسلمون من جرائم أبى طاهر والقرامطة، فهو عدوانهم على بيت الله الحرام وحجاجه فى عام 317 هـ/929 م، حيث اقتحم مكة المكرمة فى سبعمائة من أتباعه، وأعمل القتل فى أهلها وفى الحجيج المحتشدين يوم السابع من ذى الحجة استعدادا للوقوف بعرفات وأداء المناسك، فقتلوا يومئذ نحو ثلاثين ألفا منهم، واقتحم المسجد الحرام، واقتلع الحجر الأسود وباب الكعبة، وأستارها، وردم بئر زمزم بجثث القتلى الذين سفك دماءهم فى المسجد، ووقف على عتبة باب الكعبة، وصاح منتشياً:
(أنا بالله، وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا)
ولم يتمكن أحد من أداء المناسك فى ذلك العام (ثم عاد القرامطة بعد ارتكابهم تلك المجزرة البشعة إلى بلادهم، وظل الحجر الأسود فى حوزتهم، حتى ردوه إلى الكعبة فى عام 339 هـ/ 951 م، وقالوا فى ذلك؟ أخذناه بأمر وأعدناه بأمر!، وهو كلام لا معنى له فى الحقيقة. (9)
ومنذ وفاة أبى طاهر فى عام 332 هـ/944 م، هدأ القرامطة، حتى تولى أمرهم الحسن بن أحمد بن بهرام المعروف بالحسن الأعصم فى سنة 350 هـ/961 م، حيث تجدد نشاطهم مرة أخرى، فاستولوا على بلاد الشام فى عام 357 هـ/968 م. وحتى ذلك التاريخ، كانت علاقات القرامطة بالفاطميين يسودها الود والصداقة فلما أصبح الفاطميون خلفاء مصر سنة 358 هـ/979 م، انقلب عليهم القرامطة، وبدأ صراع مسلح مرير بين الفريقين؛ فأرسل المعز لدين الله الفاطمى جيشا لإخراج القرامطة من الشام فى سنه 360 هـ/971 م بقيادة جعفر ابن فلاح، فهزمه القرامطة، وقُتل جعفر، وزحف الحسن الأعصم بقواته نحو مصر، وحاصر القاهرة عدة أشهر من عام 361 هـ/972 م، لكنه لم يستطع دخولها، فارتد عائداً إلى الشام، ومات بعدئذ فى مدينة الرملة سنة 366 هـ/976 م. (10)
وبعد وفاة الحسن الأعصم صار أمر القرامطة إلى مجلس يضم ستة من شيوخهم يسمى (مجلس الستة) وحينئذ كانت أحوالهم تتجه نحو الضعف والانحلال، ولم يعد يخشى بأسهم أحد، غير أنهم ظلوا مسيطرين على ما تحت أيديهم من بلاد البحرين والأحساء، حتى تلاشى أمرهم، وزالت دولتهم فى نحو عام 375 هـ/985 م. (11)
أ. د/ محمد جبر أبو سعدة