لغة: مجاوزة حدالاعتدال، وفى مقابل طرفه هذا طرف آخر هو التفريط أو
التسيب، وكلا طرفى قصد الأمور ذميم.
واصطلاحا: نجد النصوص الشرعية تقرن بين "الغلو" و "التشدد" و "التنطع" وكأنها جميعا مجاوزة حد الاعتدال المطلوب من المسلم أن يلتزم به.
والغلو قديم قدم انحراف الفكر والسلوك حين يتجاوزان حد الاعتدال لسبب أو لآخر.
وفى القرآن الكريم نهى لأهل الكتاب عن الغلو لأنه انحراف عن الحق فى الدين، وقد جاء هذا فى آيتين هما: {يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق، إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد، سبحانه أن يكون له ولد له ما فى السموات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا} النساء:171.
{قل يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم غيرالحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل} المائدة:77.
وتدل الآيتان على أن الغلو والانحراف كان فى باب العقيدة، فيما يخص الذات الإلهية وصفاتها، وفيما يخص اعتقاد النصارى فى المسيح بما يخرجه عن حقيقته غلوا وتجاوزا (1).
لذا كانت الوسطية إحدى الخصائص العامة للإسلام، وهى إحدى المعالم الأساسية التى ميز الله بها أمته صلى الله عليه وسلم عن غيرها {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} البقرة:143.
فهى أمة العدل والاعتدال التى تشهد فى الدنيا والآخرة على كل انحراف يمينا أو شمالا عن خط الوسط المستقيم (2).
وفى السنة تحذير واضح من الغلو والتنطع والتشدد لمخالفتها وسطية الإسلام
واعتداله.
وفى الوقت ذاته تحفل السنة القولية والعملية بالأمر بالتيسير والرفق والتسامح.
وحسبنا أن نشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ربط بين الغلو والهلاك وكذا التنطع والتشدد (إياكم والغلو فى الدين، فإنما هلك من قبلكم بالغلوفى الدين) (3) (هلك المتنطعون) (4) (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم فى الصوامع والديارات) (رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) (5).
أما التيسير والأمر به فأشهر من أن لا يعلم، فقد عاتب الرسول صلى الله عليه وسلم معاذا حين شكا أحد الناس أن معاذا يطيل فى الصلاة فقال والمسلمين جميعا (يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا).
وقد وقعت فى تاريخ المسلمين مظاهر غلو بعث عليها فهم معين، أو مبالغة مرذولة، فكان موقف الأمة بيان خطأ أصحاب هذه المظاهر حتى ولو كانت اجتهادا بشكل أو بآخر.
ففى باب العبادات لم يقبل النبى صلى الله عليه وسلم موقف النفر الذى قال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أصلى ولا أنام، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء بل بين الرسول الكريم خطأهم وقال: (أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى) (7).
وفى بابا الحكم على الآخرين حين كفر الخوارج مرتكب الكبيرة، ورتب بعضهم على هذا جواز قتله، واعتبر بعضهم ديار مخالفيه ديار كفر، وقفت الأمة منهم علماء وحكاما موقف المحاور لهم، ثم رفض هذه الآراء (8).
وفى باب الغلو فى المعتقدات، حين ألهت السبئية عليا رضى الله عنه، وحين قالت بعض فرق الشيعة بتناسخ الأرواح، والرجعة ونحو هذا، عدهم مؤرخو الفرق من الغلاة الذين حادوا عن العقيدة الحقة (9) وكذلك حين غالى بعض الصوفية فى فهم التوحيد وقالوا بوحدة الوجود، أو الاتحاد، أو الحلول أو وحدة الأديان، هوجموا من الصوفية المعتدلين وقيل إنهم غلطوا فى كذا وكذا (10).
وفى باب الممارسات الحياتية، حين انعزل بعض الزهاد عن الحياة، وسكنوا الكهوف ووقعوا فى رهبانية لا يقبلها الإسلام، نظر إليهم على أنهم سقام الفهم للزهد والتوكل مضطربو السلوك (11).
وأما خطر الغلو فيكمن فى ضرره بالدعوة ووجه الإسلام.
فهومن جهة ينفرعامة الناس حيث لا يطيقه الناس، فينصرفون عن الارتباط
بالجماعة أو الاستمرار فى العبادة، وهو من جهة أخرى أصعب من أن يستمر صاحبه عليه، فيفتر فيفقد مصداقيته أمام من عرفوه.
وهو من جهة ثالثة يضر بالتوازن المطلوب فى شخصية المسلم، أعنى أنه يضيع بعض الحقوق، ولعل هذا هو الذى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعبدالله بن عمرو حين بلغه صوم النهار وقيام الليل باستمرار: (لا تفعل، صم وأفطر وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا .... الحديث) (12).
فإذا أضفنا إلى ما سبق تعصب صاحب الغلو لرأيه وجموده عليه، وعدم اعترافه بالرأى الآخر، والتسرع فى الحكم على الآخرين فى عقائدهم.
أقول: إذا علمنا هذه المظاهر أدركنا خطر الغلو فى الدين بكل مناحيه ومجالاته، وهو خطر يكتوى به صاحبه قبل الآخرين.
أما أسباب الغلو فكثيرة، وحسبنا أن نشير إلى أن هناك أسبابا تتصل بذات
الشخص وأسبابا تتصل بالجو العام.
وعلى رأس ما يتصل به قلة العلم، وما يتفرع عنه من جهل بأدب الحوار، وضوابط الاختلاف وعدم التمكن من روافد الفهم الصحيح للإسلام، وأخذ الإسلام من كتب معينة دون غيرها وتتصل به كذلك الظروف النفسية التى تكون عليها وتأثر بها جمودا، أو زعامة، أو حبا للشهرة ونحو هذا (13).
وهذا ما نبه إليه الشاطبى حين ذكرأن أسباب الابتداع وأخطرها أن يعتقد إنسان فى نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد فى الدين، وهو لم يبلغ تلك الدرجة (14)
أما ما يتصل بالجو العام، فانتشار الفساد، وغياب العدالة، والتضييق فى الحريات، وعدم الاهتمام بالتربية الحوارية، فكل هذا يحدث رد فعل يتسم بالغلو.
ولاشك أن علاج هذه الظاهرة الخطرة لابد أن تقوم به كل أجهزة التربية والتثقيف من تعليم وإعلام وثقافة ومؤسسة دينية، وكلها على التوازى مع البيت والأسرة.
أ. د/أبواليزيد العجمى