لغة: من الصحو، وهو ذهاب الغيم وارتفاع النهار، وذهاب السكر، وترك الباطل. (كما فى اللسان) (1).
واصطلاحا: اليقظة، تصيب الفرد أو الأمة، بعد سنة وغفلة وتخلف وتراجع.
ويشيع إطلاقها -فى واقعنا المعاصر- على نزوع أمتنا إلى النهضة الإسلامية، بعد عصر التراجع الحضارى، الذى امتد تحت حكم العسكر المماليك والسلطنة العثمانية، وهى صحوة تجاهد على صعيدين، وفى جبهتين:
1 - صعيد وجبهة التخلف الذاتى الموروث عن حقبة التراجع الحضارى.
2 - وصعيد وجبهة التحديات الغربية، التى تريد تهميش دور الأمة الإسلامية، وإلحاقها بالتبعية للغرب، ليتأبد استغلال الغرب وهيمنته على عالم الإسلام.
ووصف هذه الصحوة بالإسلامية، إنما يأتى تمييزا لها عن مشاريع النهوض التى اختار أصحابها المذاهب والفلسفات الغربية مرجعية لدعوات النهوض، ونماذج التحديث التى يبشرون بها ليبرالية، أو اشتراكية أو قومية.
فالصحوة الإسلامية: هى ذلك التيار العريض المتعدد الفصائل والمستويات الذى يسعى إلى تجديد الدين الإسلامى لتتجدد به دنيا المسلمين.
ولما كانت سنة الله سبحانه وتعالى فى مسارات الأمم والحضارات، هى سنة الدورات التى تتداول فيها الأمم والحضارات فترات وحقب التقدم والتراجع، والصعود والهبوط، والنهوض والركود، والحياة والموت، وهى السنة التى أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين} آل عمران:140، {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} محمد:38، {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} البقرة:251، والتى بينها حديت رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذى قال فيه (لا يلبث الجور بعدى إلا قليلا حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شىء ذهب من العدل مثله، حتى يولد فى الجور من لم يعرف غيره، ثم يأتى الله تبارك وتعالى بالعدل، فكلما جاء من العدل شىء ذهب من الجور مثله، حتى يولد فى العدل من لا يعرف غيره) (رواه أحمد).
فإذا كانت سنة الدورات هى التى تحكم مسارات الأمم والحضارات، فإن هذه السنة تقتضى الصحوة، واليقظة، والتجديد، خروجا من مراحل ودورات الغفلة، والتراجع، والجمود، فصحوة التجديد هى الأخرى سنة من سنن الله فى الاجتماع الإنسانى وفى مسارات الحضارات، وعن هذه الحقيقة ينبىء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذى قال فيه (يبعثا الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) (رواه أبو داود).
وإذا كانت الحضارات الإنسانية هى مواضعات بشرية وإبداعات مدنية، لا توصف بالخلود ولا بالإطلاق، ومن ثم يجوز عليها الموت وإخلاء الطريق لحضارات أخرى وارثة لأممها وشعوبها وتاريخها، بمعنى أن سنة الصحوة والتجديد قد تأتى فى صورة تداول الحضارات، لا بعثها وتجددها، فإن الحضارة الإسلامية -وأيضا اللغة العربية- مع أنهما مواضعات بشرية وإبداعات إنسانية، هما استثناء من مصيرموت وفناء الحضارات واللغات، وذلك لارتباطهما بالمطلق الدينى، وهو الإسلام الخالد والخاتم، والقرآن الكريم الذى تعهد الله بحفظه بلسان عربى مبين.
ولذلك، كانت الصحوة وكان التجديد سنة مطردة وقانونا لازما فى مسار الحضارة الإسلامية، يقودها إلى النهوض بعد كل ركود، وهذا هو الذى جعل حضارتنا الإسلامية -ومعها اللغة العربية- أطول الحضارات المعاصرة عمرا، وأرسخها قدما على درب النهوض من العثرات، وأكثرها استعصاء على فقدان الهوية والخصوصية، لارتباط ذلك فيها بالمطلق الدينى والخالد الإلهى، فهى إبداع مدنى بشرى، حفز إليه وصبغه وحدد معاييره الوضع الإلهى -المتمثل فى وحى الله ونبأ السماء العظيم- وتلك خصوصية لحضارتنا الإسلامية تفردت بها دون كل الحضارات.
وإذا كانت الحقبة المملوكية العثمانية، قد مثلت مرحلة التراجع فى مسيرة حضارتنا الإسلامية، فإن بواكير الصحوة الإسلامية قد بدأت فى بلادنا منذ أكثرمن قرنين من الزمان، وفى استطاعة المؤرخ لهذه الصحوة أن يتخذ من نداء الشيخ حسن العطار (1180 - 1250هـ/1711 - 1835م) أواخر القرن الثامن عشر الميلادى علامة على مرحلة التبلور لبواكير هذه الصحوة، ذلك النداء الذى قال فيه هذا الشيخ الرائد: إن بلادنا لابدأن تتغيز ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها.
ولقد كان تلاميذ الشيخ حسن العطار وفى طليعتهم الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى (1216 - 1290هـ/1801 - 1873م) الذين سعوا إلى تجديد "الذات الإسلامية" بالاحياء، وإلى الاستفادة من علوم المدنية الغربية -علوم الواقع والتمدن المدنى- بالتفاعل، وليس بالمحاكاة والتقليد هم طلائع وجذور الصحوة الإسلامية الحديثة والمعاصرة.
فلما حدث وعاجل المد الاستعمارى الغربى مشروع النهضة الذى قاده محمد على باشا الكبير (1184 - 1265هـ/1770 - 1846م).
والذى جسد إلى حد كبير فكر هذه الصحوة تسلم ريادة هذه الصحوة تيار الجامعة الإسلامية، الذى تبلور -شعبيا- عبر العالم الإسلامى حول جمال الدين الأفغانى (1254 - 1265هـ/1770 - 1849م) والذى كان الإمام محمد عبده المهندس الأول لمشروعه الفكرى النهوضى، والذى حملته إلى العالم الإسلامى -على امتداد أربعين عاما- مجلة (المنار) التى رأس تحريرها الإمام محمد رشيد رضا (1282 - 1354هـ/1865 - 1935م)، ثم أسلم أمانة هذه الصحوة إلى الحركات والتنظيمات الإسلامية الحديثة -سواء منها تنظيمات الصفوة أو التنظيمات الجماهيرية- تلك التى نشأت عقب عموم بلوى الاستعمار الغريى للعالم الإسلامى إبان الحرب الاستعمارية العالمية الأولى (1332 - 1336هـ/1914 - 1918م) وبعد إسقاط الخلافة الإسلامية (1342هـ)، ولأن هذه الصحوة كانت تواجه جناحى المأزق الحضارى: التخلف الموروث، والزحف الاستعمارى الغربى، ولأنها قد سعت إلى الإحياء والتجديد الدينى، لبلورة معالم المشروع النهضوى العصرى، فى مواجهة الجمود والتقليد اللذين أوجدا "الفراغ الفكرى" فى بلادنا، وهو الفراغ الذى سعى الاستعمار الغربى إلى ملئه بنموذجه الحضارى الوضعى العلمانى، فلقد كان تركيز
هذه الصحوة على تجديد دين الإسلام لتتجدد به -وليس بالنموذج الغربى- دنيا المسلمين.
وهذه الحقيقة هى التى جعلت رفاعة الطهطاوى يدعو إلى إحياء الشريعة الإسلامية بالاجتهاد الجديد، وإلى تقنين فقه معاملاتها، ليحكم -بدلا من القانون الوضعى الفرنسى- حركة الاجتماع والاقتصاد والسياسة فى بلادنا "لأن بحر هذه الشريعة الغراء، على تفرع مشارعه، لم يغادر من أمهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأحياها بالسقى والرى، ولقد انطلق الأفغانى من ذات الموقف -إسلامية الصحوة- فرفض أن نبدأ صحوتنا من حيث انتهى المشروع الغربى العلمانى، قائلا: "إنه لا ملجئ للشرقى فى بدايته أن يقف موقف الغربى فى نهايته" فالتمدن الغربى هو فى الحقيقة تمدن للبلاد التى نشأ فيها على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنسانى، والإسلام هو السبب المفرد لسعادة الإنسان، ومن طلب إصلاح الأمة بوسيلة سوى هذه، فقد ركب بها شططا، ولا يزيدها إلا نحسا، ولا يكسبها إلا تعسا.
وعلى هذا الدرب فى إسلامية الصحوة سار الإمام محمد عبده، الذى قال: "إن الإسلام دين وشرع، وهو لم يدع ما لقيصر لقيصر وإنما كان من شأنه أن يحاسب قيصرعلى ماله، ويأخذ على يديه فى عمله " فهو كمال للشخص.
ولم تتكف هذه الصحوة عند حدود الفكر والدعوة وإنما سلكت سبيل التنظيم، لإبلاغ الرسالة، واستمرارية الدعوة، فعرفت مسيرتها تنظيمات: الحزب الوطنى الحر وجمعية العروة الوثقى وجمعية أم القرى، فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، كما عرفت الحزب الوطنى الذى قاده مصطفى كامل (1291 - 1326هـ/1874 - 1908م) فى العقد الأول من القرن العشرين وهو الحزب الذى جمع فى دوائر الانتماء بين الوطنية وبين الجامعة الإسلامية.
وليس صحيحا ما يظنه البعض من أن الصحوة الإسلامية قد تمثلت فقط فى الحركات والتنظيمات الإسلامية، فأوسع وأعرض فصائل الصحوة الإسلامية هو التيار الشعبى، المستمسك بالهوية الإسلامية، وفى مقدمة مؤسسات الصحوة الإسلامية الأزهر الشريف، الذى ظل يرعى علوم الشريعة والعربية ويحرس الوجدان الإسلامى للأمة عبر تاريخها الطويل.
فلقد سعى على هذا الطريق العديد من أعلام الفقه والقانون، وكان الدكتور عبدالرازق السنهورى باشا (1313 - 1391هـ/1895 - 1971م) واحدا منهم، جعل هذه المهمة مشروع حياته، تأليفا وتطبيقا، مؤكدا أن دول الشرق لا يمكن أن تجتمع على شىء واحد غير الإسلام، فالإسلام بالشرق والشرق بالإسلام.
وإذا كانت العقود الأخيرة قد شهدت تعاظم الصحوات الدينية، فى مختلف الديانات، بعد أن فشلت مشاريع النهوض والتحديث اللادينية، فإن تعاظم الصحوة الإسلامية يستند إلى خصيصة إسلامية، ينفرد بها الإسلام عن غيره من الديانات، هى منهاجه الشامل، الذى يجعله بديلا حضاريا، وليس مجرد عقائد وعبادات.
وهكذا ارتبطت الصحوة الإسلامية بحلم الأمة فى النهوض، والانعتاق من أسر التخلف الموروث، ومن الهيمنة الاستعمارية والحضارية الغربية، منذ فجر هذه الصحوة وحتى الآن.
أ. د/محمد عمارة