لغة: تعنى الخبر القاطع، وشهد كعلم وكرم، وشهده "كسمعه " شهودا حضره فهو شاهد والجمع شهود وشهد.
والشهيد- وتكسر شينه- الشاهد والأمين فى شهادته، والذى لا يغيب عن علمه شيء، والقتيل فى سبيل الله لأن ملائكة الرحمة تشهده والجمع شهداء (1)
واصطلاحاً: الشهادة ذات وظائف مختلفة، ومعان متعددة، تعنى"التوحيد " أى شهادة ألاّ إله إلا الله، وحين تذكر بصيغة التثنية- أى الشهادتين- فإنها تعنى: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وهى بذلك باب الدخول إلى الإسلام والإيمان بالله ربَّا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا.
وقد ورد هذا المعنى فى قوله تعالى] قل أى شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بينى وبينكم [) الأنعام 19) 0 أى أن أعظم شهادة فى إثبات إنى رسول الله أن الله شهيد على ذلك.
والعلم بالغيب والشهادة صفة خص الله سبحانه وتعالى بها نفسه، فهو وحده "عالم الغيب والشهادة"، وقد جات هذه الخاصية الإلهية فى عدد من آيات الكتاب العزيز، ويجيء ذكرها مقرونا كل مرة بشأن من شئون الألوهية، فيقول عز وجل: {قوله الحق وله الملك يوم ينفخ فى الصور عالم الغيب والشهادة} (الأنعام 73).
أى أنه سبحانه يعلم ماغاب من حواسكم وما تشاهدونه. وقوله عز وجل: {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} (التوبة 94) 0 أى الذى لا تخفى عليه بواطن أموركم وظواهرها. وقوله عز وجل: {عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون} (المؤمنون 92). ومن نعم الله وأفضاله على الملائكة وعلى أولى العلم من عباده تكريمهم فى مجال الشهادة، فيذكرهم مقرونين بذاته العليّة أنهم يشهدون معه أنه "لا إله إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام " وذلك فى قوله عز وجل {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم. إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} (آل عمران 18 - 19). فشهادة الله سبحانه وتعالى بوحدانيته هى إيجاد ما يدل على وحدانيته فى العالم وفى نفوسنا وشهادة الملائكة بذلك هى إظهارهم أفعالا يؤمرون بها، وشهادة أولى العلم اطلاعهم على تلك الحكم وإقرارهم بذلك، وهذه الشهادة تختص بأهل العلم، طبقا لما ذهب إلية أكثر المفسرين- وعلى هذا نبه بقوله عز وجل:} إنما يخشى الله من عباده العلماء {(فاطر 28).
وأداء الشهادة واجب فى الإسلام، بل إن أداءها أقرب إلى أن يكون فرضا منه أن يكون واجبا، ففى أدائها إنصاف المظلوم مثلما أنها تثبت الحقوق لأصحابها، فضلا عن كونها أداة للفصل بين الدائن والمدين وبين أصحاب الخصومات، وفى هذه المواقف يؤكد القرآن الكريم على حتمية أدائها وذلك فى قوله عز وجل} ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون {(البقرة 140).
وفى آية أخرى من سورة البقرة يرد النص القاطع بتأثيم كاتم الشهادة، وذلك فى قوله عز وجل:} ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه {(البقرة 283). وتحتل شهادة "الوصية"، مكانة متينة فى مجتمع المسلمين من منطلق أن الوصية واجبة التنفيذ، والوصية لا تكون إلا فى مجال الخيرات، ومن هنا كان قول الرحمن الرحيم} يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فى الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين {(المائدة 106).
وتمضى الآيات متتابعة فى إصدار الأحكام الإلهية فى شأن تثبيت الوصية على الوجه السليم الذى لا تشوبه شائبة، وفى ذلك يقول الله عز وجل:} ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أق ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسقين {(المائدة 108).
وإذا كانت الشهادة فى الإسلام من الخطورة بحيث احتلت مكانة بارزة فى كتاب الله وفى حديث رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الاهتمام بالشهود- وهم من يقومون بأداء الشهادة- أمر جليل الخطر، فليس كل إنسان مؤهلا لأداء الشهادة.
إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما يراد من الشهادة معرفة الحق" (2) ومن منطلق هذا الهدف النبيل جاء فى السنة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردَّ شهادة الخائن والخائنة وذى الغمر- ذى الشحناء- على أخيه، ورد شهادة القانع- القانع هو الأجير التابع مثل الأجير الخاص- لأهل البيت وأجازها لغيرهم (3). وعن سليمان بن موسى بإسناده، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجوز شهادة خائن ولا زان ولا زانية ولا ذى غمر على أخيه ". (4) وتبلغ الدقة فى اختيار الشاهد: الحدود التى قد تبدو غير ذات خطر، ولكن خطورة الشهادة التى على صلاحها يشيع العدل فى المجتمع جعلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول- والرواية لأبى هريرة- "لا تجوز شهادة بدوى على صاحب قرية".
ويقتدى عمر بن الخطاب نهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فى شأن أن يكون الشاهد مؤهلا للشهادة الصالحة، وليس به ما يعيب شهادته حيال أحد طرفى القضية التى يدلى بشهادته فيها. يقول عمر فى "رسالة القضاء" الشهيرة التى بعث بها إلى أبى موسى الأشعرى حين ولاه قضاء البصرة فى إحدى فقراتها فى شأن الشهود: "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا فى حد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا فى ولاء أو نسب) (5).
إن عمر يقرر أن المسلمين جميعا أكفاء فى الشهادة، غير أن بعضا منهم لا تجوز شهادته، الفريق الأول هم الذين أقيمت عليهم الحدود لطعنهم فى أعراض المحصنات، والفريق الثانى ممن لا تجوز شهادتهم هم الذين عرف عنهم أنهم يشهدون زورا، والفريق الثالث من يظن بهم أن ثمت صلة تربط بين الواحد منهم وبين أحد طرفى النزاع مثل صلة القربى أو الرق أو ما شاكل ذلك.
ومن الذين ينطبق عليهم الاستثناء فى أداء الشهادة كاملة النساء، ذلك أن "شهادة المرأة مثل نصف
شهادة الرجل " طبقا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الذى مر بنا (6). وقد أورد القرآن الكريم شهادة المرأة على هذا النهج فى قوله تعالى:} واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى {(البقرة 282).
ثمة نوع آخر من الشهادة يكون الإدلاء بها على جانب من الدقة بالنظر إلى الحرج الذى يقع فيه الشاهد لأنه فى حالتنا هذه يكون واحدا من الأزواج الذين يرمون زوجاتهم بالخيانة الزوجية، وليس لديه شهداء طبقا لطبيعة تطبيق هذا النوع من الحدود، وفى مثل تلك الحالة يكون على الزوج أن يشهد أمام القاضى أربع شهادات بالله أى أربع مرات أنه صادق فى رميه إيّاها بالزنا، ثم يزيد شهادة خامسة بأن يدعو على نفسه باستحقاق لعنة الله ان كان من الكاذبين. وبذلك تكون الزوجة مستحقة عقوبة الزنا وهى الرجم حتى الموت، وفى هذه الحالة لا يدفع عنها عقوبة الحد إلا أن تشهد فى مقابل شهادة زوجها أربع شهادات إنه لكاذب فى اتهامه إياها، ثم تزيد شهادة خامسة بالدعوة على نفسها أنها تستحق غضب الله إن كان زوجها صادقا فى اتهامه إياها، فإذا تم ذلك قام القاضى بالتفريق بينهما.
لقد أورد القرآن الكريم هذه الشهادات من الطرفين تفصيلا فى نطاق من الإعجاز
الربانى فى قوله تعالى} والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين {(النور 6 - 7) ثم يكون للزوجة أن تقوم بمثل صنيع زوجها من الإدلاء بخمس شهادات على النحو الذى سبق الاستشهاد به فى الآيتين السابقتين.
ومن الشهادات التى ألف المسلمون سماعها، شهادة براءة يوسف - عليه السلام - من اتهام امرأة العزيز له بمحاولة الاعتداء عليها، وقيام أحد أقربائها بتوضيح البرهان الذى برأه من كيدها وذلك فى قوله عز وجل:} وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك {إلى قوله تعالى:} فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم {(يوسف 23 - 28).
ومن القضايا التى تنال اهتمام المسلمين كل عام رؤية هلال شهر رمضان التى تصح أصلا بالشهادة، وهى هنا بمعنى الحضور والرؤية بالعين، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" والرؤية تحتاج إلى شهادة من مسلمين بالغين سليمى الإبصار، وهؤلاء يؤدون الشهادة لدى ولى الأمر بأنهم رأوا الهلال، ولا نريد هنا أن نذهب مذاهب المحدثين فى تأويل الرؤية فليس هذا مجالها، وإنما المطلوب فى هذا المقام شهود عدول يؤدون الشهادة بأنهم رأوا هلال رمضان.
لعل هذا الذى أوردناه فى "الشهادة" لا يعفى من ذكر شهادات أخرى مثل شهادة الزواج وهى غير وثيقة الزواج، وشهادة توكيل العروس لمن اختارته وكيلا لها فى إتمام إجراءات الزواج.
وهناك مصطلح بلفظ الشهادة، وهذه الشهادة هنا تعنى وثيقة، مثل شهادات الميلاد، والوفاة والملكية، وإبراء الذمة، وحسن السير والسلوك، وشهادة النسب الشريف، والشهادات الدراسية التى تبدأ بشهادة الإبتدائية، وتنتهى بشهادة الدكتوراه وغير ذلك كثير. والحق أن مصطلح التسمية فى تلك الأمثلة ينبغى أن يتغير، وأن تستعمل التسمية التى تدل على حقيقة هذه الحالات وهى الوثيقة.
أ. د/ مصطفى الشكعة