تختلف عبارات الصوفية فى تحديد معنى "الذوق" من مدرسة إلى مدرسة، ومن طبقة إلى أخرى لكنها تلتقى فى أن "الذوق" عبارة عن: علوم إلهية تُدرك إدراكا قلبيا عن طريق الذوق والكشف، لا تعلّما أو نقلا من كتاب أو غيره. والشيوخ الأوائل (مثل: الطوسى فى اللمع، والقشيرى فى الرسالة) لا يخرجون فى تفسيرهم للذوق عن هذا المعنى البسيط المتبادر من إطلاقه فى كتبهم، وإن كان يرتبط - عندهم- دائما بمصطلحين آخرين يأتيان بعده على الترتيب، هما: الشرب، والرِّى. غير أن مرتبة الذوق أدون من مرتبتى: الشرب والرى، حتى إنهم ليسمون صاحب الذوق: "متساكرا"، وصاحب الشرب: "سكران"، وأما صاحب الرى فهو: "صاح" ومن ثم كان مقامه أعلى من مقام الشرب، ومقام الشرب أتم من مقام الذوق.
والذوق- فيما يبين صاحب عوارف المعا رف- إيمان، وهو لأرباب "البواده"، أى: الإشارات الفجائية الخاطفة، والشرب: علم، وهو لأرباب الطوالع واللوائح واللوامع، وهى أكثر دواما وثباتا من البواده التى هى حظ الذائقين، وأما "الرى" فهو لأرباب "الأحوال" لأن الأحوال تستقر، ومالا يستقر فليس بحال (1).
ويسوى الهجويرى فى كشف المحجوب بين "الذوق" و "الشرب" ويكاد يحصر الفرق بينهما فى الاستعمال فقط: فالشرب لا يستعمل إلا فيما كان لذة أو راحة كأن يقال: شربت بكأس الوصال، وكأس الوداد، بخلاف الذوق فإنه يستعمل فى اللذة وفى المشقة على السواء، فيقال: ذقت الراحة، وذقت البلاء، وذقت الخوف. ويستأنس "الهجويرى" فى تفرقته هذه، بقوله تعالى: {كلوا واشربوا هنيئا} (المرسلات 43)، وقوله فى موضع آخر: {ذوقوا مس سقر} (القمر 48) 0 (2)
ونفس هذه التقسيمات نجدها فى كتابات الشيوخ المتأخرين، وإن لوحظ أن "الذوق" قد حظى فى هذه الكتابات بشىء من التحليل العقلى لا يوجد فى كتابات السابقين، من ذلك- مثلا-: رجوع الذوق وارتباطه بمقام "البرق"، فإن صاحب هذا المقام يذوق قطرة من ماء "البرق" الصادق، لا البرق الكاذب، وهو: البرق الخُلّب، وهذه القطرة علوم إلهية خالصة، لا تُنال إلا بالذوق فقط. وهنا يقارن الشيوخ- أو يقربون- بين صورة اللسان الخالى من العلل والأمراض فى ذوق الطعوم على حقيقتها، وصورة "القلب" الخالى من العقائد والعلوم فى ذوق المعارف الإلهية على حقيقتها، وأن القلب المدخول يستحيل عليه ذوق العلوم الإلهية كما هى فى أنفسها، كما يستحيل على اللسان المعلول إدراك ذوق المطعومات على وجهها الصحيح، ويقولون: كما أن كيفية ذوق اللسان للعسل ليست أمرا آخر وراء كيفية حلاوة العسل ذاتها، كذلك القلوب الذائقة للعلوم الإلهية ليست لها حالة أو كيفية أخرى غير هذه العلوم المذوقة وحصولها بأنفسها فى قلوب العارفين، والفرق بين إدراك علماء الرسوم وذوق المتألهين هو فرق ما بين العلم بطعم العسل وذوق العسل نفسه، ففى الذوق يتحد العلم بالمعلوم، وشرط الذوق على هذا النحو تطهير النفس، والفناء عن جميع حظوظهما، وإزاحة كل الوسائط بين المُدرك وما يدركه.
وللذوق- عند الصوفية- درجات ثلاث، هى: ذوق التصديق، وذوق الإرادة، وذوق الانقطاع، ولكل درجة: أحوالها، وتجلياتها، وثمراتها، ومواريثها.
أ. د/ أحمد الطيب
1 - يخالف السهروردى الصوفية فيما ذهب إليه من اعتبار "الرِّى" الذى هو خط ثابت ودائم- من الأحوال، وهو نفسه قد تحفظ على رأيه هذا، وبيَّن أن الأحوال إذا كان من شرطها التحول وعدم الاستقرار- كما يقول الجمهور- فإن ما يجده صاحب "الرِّى" مما لا يستقر لا يكون "رِيّاً"، بل هو من باب اللوائح والطوالع التى تبدو وتغيب لصاحب "الشرب". انظر: عوارف المعارف (على هامش إحياء علوم الدين) 4: 270، طبعة. عيسى الحلبى القاهرة.
2 - هذا الفرق غير دقيق فقد ورد "الشرب" فى القرآن الكريم مستعملا فى المشقة مثل الذوق، قال تعالى: {فشاربون عليه من الحميم. فشاربون شرب الهيم} (الواقعة: 54 - 55).