لغة: ثَقِفَ الرجل: صار حاذقا فطنا، والثقافة: العلوم والمعارف والفنون التى يطلب الحذق فيها، كما فى الوسيط (1).
واصطلاحا: مجموعة الأعراف والطرق والنظم والتقاليد التى تميز جماعة أو أمة أو سلالة عرقية عن غيرها.
وعلى مستوى الفرد يطلق اللفظ على درجة التقدم العقلى التى حازها، بصرف النظر بالطبع عن مستويات الدراسة التى أنجزها.
ومنذ وقت طويل تتعدد التعريفات لهذا اللفظ حتى إنه فى مطلع الخمسينات حصر عالمان أمريكيان من علماء الأنثروبولوجيا مائة وخمسين تعريفا للثقافة، وتلقى التعريفات المختلفة أضواء على المراد باللفظ الذى يفهمه العامة بأكثر مما يفهمون تعريفه، ويمكن لنا تأمل ما توحى به من تعريفات مهمة من قبيل أن مفهوم الثقافة يشير إلى كل ما يصدر عن الإنسان من إبداع أو إنجاز فكرى أو أدبى أو علمى أو فنى.
أما المفهوم الأنثروبولوجى للثقافة فهو أكثر شمولا، ويعد الثقافة حصيلة كل النشاط البشرى الاجتماعى فى مجتمع معين، ويستتبع هذأ أن لكل مجتمع ثقافته الخاصة المميزة، بصرف النظر عن مدى تقدم ذلك المجتمع أو تأخره.
ويتميز هذا المفهوم ببعده عن تحميل الثقافة بالمضمونات القيمية، وإن اعترف بأن لكل ثقافة نسقها الخاص من القيم والمعايير.
وفى مقابل هذا المفهوم الأنثروبولوجى الواسع نجد مفاهيم كثيرة أكثر تحديدا، فكثيرا ما تستخدم الثقافة للإشارة إلى النشاط الاجتماعى الذهنى والفنى، وفى أحيان أخرى إلى النشاط الفنى وحده، أو النشاط الأدبى والفنى دون النشاط العلمى الذى يعده البعض غير خاضع لأنساق الثقافات، باعتباره مرتكزا على حقائق مطلقة بعيدة عن التأثر بإلذوق أو البيئة أو الموروثات جميعا.
ويتضح هذا المفهوم بطريقة بيروقراطية فى مصر حين تمنح أكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا ومن قبل (المجلس الأعلى للعلوم) جوائز الدولة فى العلوم، على حين يمنح المجلس الأعلى للثقافة نفس الجوانز فى الآداب والفنون، وتضاف إليها العلوم الاجتماعية، (وقد كان هذا قائما منذ كان المجلس السابق مجلسا للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية).
وتأخذ كثير من البلدات الإسلامية بمثل هذا التقسيم مع اختلافات طفيفة، فعلى حين تعد العمارة فنا من الفنون، فإنها فى أحيان كثيرة تعامل على أنها علم هندسى يتبع بالتالى العلوم ومجالسها لا الفنون.
وقد ذكرنا العمارة بالذات لأنها أحد المكونات البارزة للثقافة القومية، بل ربما كانت بمثابة أولى مقومات تكوين الفكرة عن الثقافة لدى الآخرين الذين يطلعون عليها للوهلة الأولى.
ومن تعريفات الثقافة الأخرى التى تلقى الضوء على معناها أنها مجموع العادات والفنون والعلوم والسلوك الدينى والسياسى منظورا إليها ككل متمايز يميز مجتمعا عن آخر.
ومن ثم يمكن فهم تعبيرات مثل "الصراع الثقافى" للتعبير عن الصراع أو التسابق بين ثقافتين متجاورتين، أو التغير والارتقاء فى عدة جوانبه من النمط الثقافى.
كما يمكن استخدام لفظ الثقافة للدلالة على الجوانب العقلية والفنية للحياة، فى مقابل الجوانب المادية والتكنولوجية لها، ومن ثم تصبح الثقافة بمثابة نمط كل الترتيبات -المادية أو السلوكية- التى يحقق -من خلالها- مجتمع معين لأعضائه إشباعات أكبر مما يستطيعون فى حالة مجرد الطبيعة.
ويميز بعض الباحثين بين ثقافة مادية تشمل العدد والأدوات والسلع الاستهلاكية والتكنولوجيا وثقافة غير مادية تشمل القيم والتقاليد والتنظيم الاجتماعى، وتنطوى الثقافة على اكتساب وسائل اتصال (اللغة، المطالعات، الكتابات) وأدوات عمل معينة، وافكار وأعمال مثل الحساب، وعلى زاد ضخم من المعرفة والاعتقاد، وعلى منظومة من القيم، وعلى توجه ميول خاص ملازم، ويمكن لكل هذا أن يكتمل ويرتقى بتربية متخصصة قليلا أو كثيرا، وتدريب يسمح باستفادة اجتماعية بالأنشطة الفردية.
ويرى الأنثربولوجيون أن الثقافة تتمايز وتستقل عن الأفراد الذين يحملونها ويمارسونها فى حياتهم اليومية، فعناصر الثقافة تكتسب بالتعلم من المجتمع المعاش، على اعتبار أن الثقافة هى جماع التراث الاجتماعى المتراكم على مر العصور.
وعلى هذا يبعد هؤلاء عن الثقافة كل ما هو غريزى أو فطرى أو موروثا بيولوجيا.
وللسمات الثقافية قدرة هائلة على البقاء والانتقال عبر الزمن، وكثير من هذه السمات والملامح التى تتمثل بوجه خاص من العادات والتقاليد والعقائد والخرافات والأساطير تحتفظ بكيانها لعدة اجيال.
ويهتم علماء الاجتماع بدراسة تاريخ ثقافات الشعوب المختلفة من باب أن معرفة الماضى تساعد على فهم الحاضر.
وليس من شك فى أن الثقافة الإسلامية ككل وثقافات الشعوب الإسلامية المختلفة، تمثل أنماطا بارزة للثقافة المتصلة والممتدة بجذور قوية فى الماضى، بل يكاد المراقبون ينظرون إلى الثقافات الإسلامية اليوم على أنها أقدم الثقافات التى لا تزال موجودة فى عالم اليوم دون تقلبات أو تغيرات حادة فى مفاهيمها الأولى، ويرجع هذا بالطبع إلى سمو التعليمات الإسلامية، التى تستمد وجودها من الخالق جل وعلا من خلال تشريع سماوى لم يقتصرعلى العبادات وإنما تكفل بتوجيه السلوك الإنسانى فى المعاملات والعادات ونمط الحياة اليومية على مستوى الفرد والمجتمع على نحوما نعرف جميعا.
أ. د/محمد محمد الجوادى