تبوك، موضع بين وادى القرى والشام، وكانت من ديار قضاعة، تحت سلطان الروم، وهى الآن إحدى المدن المهمة فى شمال غرب المملكة العربية السعودية وتقع شمال المدينة المنورة بنحو 778 كيلو مترا.
وغزوة تبوك تسمى فى كتب السيرة بغزوة العسرة، قال أبو موسى الأشعرى: (أرسلنى أصحابى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله الحملان لهم، إذ هم معه فى جيش العسرة، وهى غزوة تبوك). ويرجع ذلك إلى ما كان عليه حال المسلمين يومئذ من العسر الشديد فى المال والزاد والركائب، وفى ذلك يقول القرآن الكريم:} لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة {(التوبة 117).
وكان خروج المسلمين من المدينة لهذه الغزوة فى شهر رجب سنة تسع هجرية (أكتوبر630 م)، فى وقت شديد الحر، والناس يحبون البقاء فى الظلال والثمار، ومع ذلك سارع المسلمون إلى إجابة داعى الجهاد فى سبيل الله، فبلغت عدة هذا الجيش ثلاثين ألف رجل، وهو أكبر جيش قاده الرسول عليه الصلاة والسلام. وقد تسابق المؤمنون فى الإنفاق على تجهيز هذا الجيش تلبية لدعوة الله ورسوله، قال تعالى:} انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون {(التوبة ا 4)، وقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: " من جهَّز جيش العسرة فله الجنة"، وكان أكثر الناس إنفاقاً يومئذ عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وآخرين.
إن اتجاه المسلمين فى هذه الغزوة إلى الشمال ناحية الروم، إنما هو استجابة طبيعية لداعى الجهاد، كما نبه على ذلك ابن كثير فى البداية والنهاية بقوله: فعزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتال الروم، لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الحق. لقربهم إلى الإسلام وأهله، وقد قال الله تعالى:} يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلطة واعلموا أن الله مع المتقين {(التوبة 123) ..
أما المنافقون .. وهم أولئك الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر- فقد تقاعسوا عن الخروج مع النبى - صلى الله عليه وسلم -، معللين تقاعسهم بشدة الحر، وقالوا- وهم يثبطون الناس عن الجهاد - لا تنفروا فى الحر، فرد عليهم القرآن بقوله تعالى:} وقالوا لا تنفروا فى الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون {(التوبة 81) وهكذا تخلف جلُّ المنافقين عن الخروج إلى تبوك، ومضى قليل منهم مع الجيش بقصد الإرجاف والتخذيل والفتنة، وقد فضحهم القرآن الكريم وكشف خبيئتهم فى عبارة صريحة فقال تعالى:} يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون {(التوبة 94).
وانطلق الجيش نحو تبوك، ولم يلقوا جموع الروم والقبائل العربية المتنصرة، لأن حكام المدن قد آثروا الصلح مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفع الجزية للدولة الإسلامية، ومن " هؤلاء الحكام ملك أيلة الذى أهدى إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وصالحه، كما أعطى أهل جَرباء وأذرُح الجزية، وكتب لهم النبى - صلى الله عليه وسلم - الأمان، ومنهم كذلك أكيدر بن عبد الملك الكندى ملك دومة الجندل، الذى أسرته قوة إسلامية بقيادة خالد بن الوليد فجاءوا به فصالح على الجزية. كما يروى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - - وهو بتبوك - أرسل دحية بن خليفة الكلبى إلى هرقل ملك الروم، وأن هرقل بعث التنوخى ليتعرف له على بعض علامات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ومما لا ريب فيه أن هذه الغزوة التى لم يقع فيها قتال، كانت ذات أثر بالغ فى استقرار الأوضاع ونشر الإسلام وتأكيد سيادة الدولة الإسلامية فى تلك البلاد والمناطق التى مر بها الجيش الإسلامى حتى مدينة أيلة على رأس خليج العقبة، فلما عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة بعد عشرين يوماً قضوها فى تبوك، كانت عودتهم عودة الظافرين المنتصرين. ونظراً لأهمية هذه الغزوة وما صاحبها من مواقف متباينة، وما تخللها من حوادث مختلفة فقد أنزلت بشأنها آيات عديدة فى سورة التوبة (براءة) أُنزل بعضها قبل خروج الجيش، وبعضها فى أثناء الزحف إلى تبوك، والبعض الآخر بعد العودة إلى المدينة، وقد تناولت الآيات ظروف هذه الغزوة وفضحت المنافقين، ونوَّهت بفضل المجاهدين بالأنفس والأموال من المؤمنين، وأعلنت توبة الله على المؤمنين الصادقين الذين تخلفوا عن ركب الجهاد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ا. د/ محمد جبر أبو سعدة