كان النبى- عليه الصلاة والسلام- يعرض نفسه على القبائل فى المواسم والأسواق باحثاً عن قبيلة تقف إلى جانبه حتى يبلغ- آمنًا- رسالة ربه، وكان من الذين لقيهم أثناء هذا العرض ستة أو ثمانية من أهل يثرب لم يدخلوا فى دينه، ولم يظهروا كراهتهم له، وإنما انتظروا حتى يقصوا على قومهم خبرهذا النبى وما يدعو إليه، ولما سمع أهل يثرب من الأوس والخزرج من هؤلاء الرجال ما سمعوا راح بعضهم يقول لبعض لماذا لا يكون هذا النبى هو ما يخوفنا به اليهود؟ ويزعمون أنهم سيتبعونه ويقتلوننا تحت لوائه قتل عاد وإرم، لئن كان هو فلا ينبغى أن يسبقونا إليه، وفى الموسم التالى استقبل النبى- عليه الصلاة والسلام- منهم إثنى عشر رجلاً، وبايعوه على ألا يشركوا بالله شيئا، ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوه فى معروف وقبل أن يودعوه ويأخذوا طريقهم إلى بلادهم، قالوا له: يا رسول الله إنا لمن قوم أولى قوة وأولى بأس شديد، وإن يجمعهم الله عليك فلا أحد من العرب أعز منك، ولما أزمعوا الرحيل أرسل معهم النبى- عليه الصلاة والسلام- مصعب بن عميروعبد الله بن أم مكتوم يتلوان عليهم القرآن ويشرحان لهم تعاليم الإسلام، ونزل الرجلان دار أسعد بن زرارة، وحالفهما النجاح حتى لم تعد تتسع هذه الدار للوفود المتوالية عليها، فاتخذا دارا أخرى أطلق عليها دار القراء، ولم يمض العام الذى أرسل فيه النبى - صلى الله عليه وسلم - مبعوثيه حتى كان الإسلام قد انتشر فى أهل يثرب، ولم يبق فيها منزل إلا دخله واعتنقه الكثير من رجاله ونسائه، وعاد مصعب وابن أم مكتوم إلى مكة ومعهما سبعون رجلاً وامرأتان ضمن عدد كبير من المشركين، واستقبل النبى- عليه الصلاة والسلام- من المسلمين من أبلغه شوق إخوانهم إليه وحرصهم على لقائه، وتم الاتفاق على أن يكون اللقاء فى شعب الكعبة عند العقبة: وهى المكان الذى يُلقى الحجيج فيه الجمار على أن يكون هذا الموعد سرا حتى لا يعلم المشركون به فيسعون إلى إخفاقه، ونفذ المسلمون هذا الاتفاق فى دقة وما أن اكتمل جمعهم حتى كان النبى- عليه الصلاة والسلام- بين أظهرهم، وافتتح هذا الإجتماع العباس بن عبد المطلب، وكان على دين قومه، فقال: يا معشر الخزرج تعلمون أن محمدا فى منعة من قومه، فإن كنتم إذا حملتموه إليكم منعتموه من الأبيض والأحمر فهو دونكم فخذوه، وإن كنتم إذا مسكم الضر وعضتكم الحرب أسلمتموه وخليتم بينه وبين عدوه، فمن الآن فدعوه. فصاحوا جميعا: بل نحميه مما نحمى منه أزرنا وأبناءنا ونساءنا. فقال قائل: يا رسول الله أرأيت لو حملناك إلى بلادنا ومنعناك مما نمنع منه نساءنا وأبناءنا، ثم نصرك الله على أعدائك أتعود إلى قومك وتتركنا؟ قال: لا بل الدم الدم والهدم الهدم، أنتم منى وأنا منكم، ومد عليه الصلاة والسلام يده لمبايعة القوم على ما تم الاتفاق عليه من الهجرة إليهم، والمنعة له، وأمر الجلساء أن يختاروا من أنفسهم على أنفسهم نقباء يكونون على قومهم كفلاء،
ويكون النبى- عليه الصلاة والسلام- كفيلا على قومه، فاختار القوم أثنى شرنقيبًا: تسعة من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع بن عمرو، وعبد الله ابن روحة بن امرئ القيس، ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور بن صخر، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت وسعد بن عبادة بن دليم، والمنذر بن عمرو بن خنيس، وثلاثة من الأوس وهم: أسيد بن
حضيربن سماك، وسعد بن خيثمة بن الحارس، ورفاعة بن المنذر بن زنير. ويلاحظ أن النبى- عليه الصلاة والسلام - لم يتدخل فى هذا الانتخاب لا بعبارة ولا بإشارة، وإنما ترك القوم أحرارًا لا تأثير على أحد منهم من قريب ولا من بعيد
أ. د/ عبد العزيز غنيم