لغة: البيع هو مطلق المبادلة مالية كانت أو غيرمالية ومن ثم جاء قول الحق تبارك وتعالى: {فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به} التوبة:111. فقد أطلق الله سبحانه وتعالى البيع على بذلهم أنفسهم وأموالهم فى سبيل الله ليظفروا بجنات النعيم. وهو مصدر الفعل (باع) ويطلق على الشىء وضده كالقرء: للطهروالحيض، فيقال باع كذا إذا أخرجه عن ملكه أو أدخله فيه. والبيع اسم المبيع، والبيعة المبايعة التى هى عبارة عن المعاقدة والمعاهدة. فقد جاء فى الحديث النبوى الكريم قول المعصوم صلى الله عليه السلام: (ألا تبايعونى على الإسلام) (1)
واصطلاحا: البيع فى اصطلاح الفقهاء عبارة عن مبادلة المال المتقوم بمثله على وجه مخصوص، وبذا يكون اصطلاح الفقهاء جاريا على استعمال البيع بمعنى الإدخال فى الملك، ومن ثم قالوا:"البيع سالب والشراء جالب". وحكمة مشروعية البيع أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وجعله بطبعه محتاجا للتعامل مع بنى جنسه، رغبة منه فى الحصول على ما يسد رمقه، وتبقى به حياته إذ هو وحده لا يستطيع القيام بمهام شئونه المختلفة التى يتطلبها أمرمعاشه. من هنا شرع الحكيم الخبير البيع، نظرا لما يترتب عليه من تبادل المنافع بين الناس وتحقق التعاون بين أفرادهم وجماعاتهم، وبذا تنتظم حياتهم وينطلق كل واحد منهم إلى ما يمكنه الحصول عليه من وسائل العيش فالزارع يغرس الأرض ليبيع ثمارها وحاصلاتها لمن لا يستطيع الزراعة إلا أنه يستطيع الحصول على الثمن من طريق آخر هيأه الله له. وكذا التاجر يحضر السلعة من جهات بعيدة نائية كى يبيعها لمن هم فى حاجة إليها.
فالبيع والشراء من أهم الوسائل التى تبعث على النهوض وترقى بأسباب الحضارة والعمران، فلو لم يشرع الله سبحانه وتعالى البيع؛ لاحتاج الإنسان إلى أخذ ما بيد غيره، إما بالغلبة والقهر، وإما بالسؤال والاستجداء وإلا تذرع بالصبر حتى الهلاك. ولا شك أن هذا حال لا يقوم معه نظام الأمم لما فيه من الفساد والذل والصغار والهلاك.
ودليل مشروعية البيع: القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والاجماع أما القرآن الكريم، فهناك آيات كثيرة منها قول الحق تبارك وتعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} البقرة:275. وقوله: {وأشهدوا إذا تبايعتم} البقرة:282.
ومنها قوله جل وعلا: {يها أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} النساء:29.
فهذه الآيات الكريمة صريحة فى حل البيع ومشروعيته وإن سيقت لأغراض أخرى كأفادة الآية الثانية للأمر بالاستشهاد عند التبايع، دفعا للخصوصية، وحسما للنزاع حتى لا يقع الجحود أو الإنكار بينما سيقت الآية الثالثة للنهى عن أكل أموال الناس بالباطل إلا بطرق البيع ونحوه من كل تجارة مشروعة.
أما الآية الأولى فقد سيقت للتفرقة بين البيع والربا ردا على من سوى بينهما، بل جعل الربا أدخل فى الحل من البيع.
واًما السنة النبوية المطهرة فقد روى أن المعصوم صلى الله عليه وسلم سئل عن أطيب الكسب فقال: (عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور) (رواه الإمام أحمد والطبرانى) (2).
والمبرور من البيع ما لا غش فيه.
وجاء فى الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطى فيه سواء) (3)
وقال المعصوم صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق يحشريوم القيامة مع الصديقين والشهداء) (رواه الترمذى) (4).
والأحاديث فى هذا المجال مستفيضة تبلغ حد التواتر المعنوى، وقد بعث صلى الله عليه وسلم والناس يتبايعون فأقرهم على ما لم يخالف الشريعة الغراء.
وأما الإجماع فإن الأمة الإسلامية بجميع طبقاتها، وخلال كل عصورها توافقت على جواز البيع، وأجمعت على أنه أحد أسباب الملك وقد تعامل به المسلمون من لدن الصدر الأول حتى يومنا هذا دون نكير، فكان ذلك إجماعا قطعيا على مشروعية البيع.
من الأدلة السابقة (قرآنا وسهنة وإجماعا) نقف على أن الأصل فى البيع الإباحة إلا أنه قد يطرأ من الأحوال والملابسات ما يخرجه عن هذا الأصل إلى أحد طرفى الطلب وهو الحظر أى الكراهة، أو التحريم، أو الفعل وهو الندب أو الإيجاب، أو الافتراض إذ البيع قد يكون مفروضا، وذلك للمضطر اضطرارا شديدا بحيث إذا لم يحصل على الشئ المبيع فورا فإنه يهلك أو يتلف عضو من أعضائه، والبائع إذا امتنع عن البيع والحالة هذه فإنه يكون آثما ومن ثم قال فقهاؤنا:"إن القاضى له أن يجبره على البيع إنقاذا للمضطر" وقد يكون واجبا وذلك كالبيع للمضطر الذى لم يبلغ به الاضطرار حدا يودى به إلى الهلاك، بل يوجد عنده حرجا ومشقة لا يزولان إلا بالحصول على المبيع بحيث، إذا لم يحصل عليه من صاحبه لا يصل إليه من غيره.
وقد يكون مندوبا وذلك كبيع الشى ممن يحلف أن يشتريه منه وليس للبائع حاجة إليه.
وقد يكون حراما وذلك كبيع المسلم الخمر والخنزيرأو غيرهما من كل ما نهى عن بيعه لذاته أو لصفة فيه كالبيع مع الشروط الفاسدة غير أنه قد يكون باطلا كالخمر وما ماثله.
وقد يكون فاسدا كالبيع المقترن بالشرط الفاسد.
وأخيرا قد يكون البيع مكروها، ومثال ذلك كل ما نهى عنه لأمر مجاور لا لخلل فى الأركان أو الشروط، وذلك كالبيع عند الآذان الأول لصلاة الجمعة الوارد فى قول الحق تبارك وتعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكرالله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} الجمعة 9.
وإذا ما تم عقد البيع مستكملا أركانه مستوفيا شروطه، يكون قد حاز درجة الاعتبار شرعا، وعندئذ يترتب عليه انتقال ملك كل من الطرفين عما بذله، وثبوت ملكه فيما أخذه ليثبت ملك البائع فى الثمن، وملك المشترى فى المبيع، وعندها يحل لكل منهما التصرف فيما انتقل ملكة إليه هو أهل له من التصرفات الشرعية ويصبح البيع -كما شرعه الله- واسطة السعادة بين الناس أفرادا وجماعات فتنتظم حياتهم ويتفرغ كل منهم لما يسره الله له من سبل العيش فى أمن وأمان وهدوء واستقرار وسعادة واطمئنان.
أ. د/محمد عبد اللطيف جمال الدين