مقدمة:
للإحراق أحكام فى الشريعة الإسلامية تبدو فى المواضع الآتية:
أولها: أثر الإحراق فى طهارة الأعيان النجسة، وطهارة الأعيان المحروقة واستعمالها.
ثانيها: ما يجوز للإمام وولى الأمر من الإحراق، وذلك فى أمور شتى، كإحراق- آلات اللهو والفسق، وإحراق الكتب التى تتضمن الكفر، والصلبان، وما يجوز من إحراق المصاحف وإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة، والمنافقين والفساق، ورحال الغالِّ للغنيمة ومتاعه.
وأخيرا: ما يجوز عند القتل والقصاص وامتناع المْثلَة والتعذيب.
ثالثها: بحث ما يجوز من الإحراق فى القتال، برمى النار على المشركين عند محاربتهم، والحكم لو تترسوا بمن لا يجوز قتله، وكان المحاربون من البغاة أو المرتدين.
رابعها: الجناية على النفس أو المال بالإحراق وما يكون من مُثْلَة السيد بعبده بالإحراق.
إحراق النجاسات واستعمال الأشياء المحروقة
اختلف الرأى فى أثر الإحراق فى طهارة الأعيان النجسة، وهل يؤدى الإحراق إلى طهارتها، أم تظل نجسة بعد الإحراق، وحكم رمادها ودخانها.
فذهبت بعض المذاهب إلى أن الإحراق يطهر الأعيان النجسة مع تفصيل فى دخانها وما تخلف من رمادها. وذهب البعض الآخر إلى أن الأعيان النجسة لا تطهر بالإحراق وأن رمادها وسخامها نجسان.
مذهب الحنفية:
للحنفية (?) رأيان:
أحدهما: رأى الإمام أبى يوسف (?) ، وعنده أن الأشياء النجسة لا تطهر بالإحراق.
فإذا احترقت خشية أصابها بول أو عذرة، ووقع رمادها فى بئر، فسد ماؤها عنده. ذلك لأن الرماد عنده أجزاء لتلك النجاسة، فتبقى على نجاستها بعد الإحراق.
والثانى: هو رأى الإمام محمد (?) ، وعليه الفتيا، وهو أن الإحراق النجاسات يطهرها. ذلك لأن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة، وتنتفى الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها، فمن باب أولى بانتفائها كلها.
وإنما قيل (?) أن إحراق الذى تطهر به النجاسة هو ما استحالت به النجاسة، أى تغيرت به مادتها وتحولت عن طبيعتها. فليس كل ما يدخل النار يطهر بدخوله فيها وإنما تطهر الأعيان النجسة بالإحراق.
وقيل (?) أيضا أنه لا فرق بين الجفاف بالنار أو الشمس أو الريح، فكل ذلك يطهر النجاسة. فإذا احترقت الأرض بالنار وذهب أثر ما عليها من النجاسة جازت الصلاة مكانها من باب أولى.
وعلى القول بأن النجاسات تطهر بالإحراق إذا استحالت مادتها قالوا: إن السرقين (الزبل أو العذرة، فضلة الإنسان) إذا أحرقت حتى صارت رمادا ظهرت.
وإذا أحرق راعى الشاة الملطخ بالدم وزال عنه الدم يحكم بطهارته. وإذا لبَّن (عجن اللبن: وهو الطوب المضروب من الطين) بالماء النجس واحرق صار طاهرا.
وكذلك الكوز أو القدر إذا طبخ من طين نجس يطهر بالإحراق والإناء من الحديد أو الخزف أو الحجر إذا دخلت النجاسة فى أجزائه فإنه يطهر بالإحراق.
مذهب المالكية:
وذكر المالكية فى ذلك رأيين:
أحدهما: أن النجاسات تطهر بالإحراق ... قاله الدردير فى شرح بلغة السالك على الشرح الصغير (?) ، وقاله ابن رشد كذلك (?) .
والثانى: أن النجاسات لا تطهر بالإحراق (?) وذلك مفهوم من قال بنجاسة دخان النجاسات المحترقة ورمادها.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (?) بالتفرقة بين ما هو نجس لعينه، وما هو نجس لمعنى فيه.
فأما الأشياء النجسة لعينها كالعذرة والسرجين وعظام الميتة ونحوها فقالوا لا تطهر بالإحراق، وأما إذا كانت نجاستها لمعنى كالخمر- فإنها بإحراقها يزول هذا المعنى، فتطهر بالإحراق. فإذا طبخ اللبن (الطوب النىء) الذى خلط بطينة السرجين لم يطهر لأن النار لا تطهر النجاسة.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (?) : لا تظهر النجاسة بالإحراق ولا بالاستحالة ولو أحرق السرجين النجس فصار رمادا لم تطهر لأنها نجاسة لم تحصل بالاستحالة فلم تطهر بها كالدم إذا صار قيحاً أو صديداً. وعلى هذا الأساس اعتبر الخمر كأن تتحول إلى خل فإنها نجسة بالاستحالة، فجاز أن تطهر بها. وقالوا لا تطهر الأرض بشمس ولا ريح ولا جفاف، وقالوا لا تطهر نجاسة بنار فرمادها ودخانها وبخارها وغبارها نجس.
مذهب الظاهرية:
وقال الظاهرية (?) : تطهر الأعيان النجسة بإحراقها، فإذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رمادا أو ترابا فكل ذلك طاهر ويتيمم به.
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (?) : إن النار تطهر النجاسات وذلك بالاستحالة التامة وهى تغير اللون والريح والطعم إلى غير ما كانت عليه.
مذهب الإمامية:
وقال الإمامية (?) : إذا أحالت النار النجاسة رماداً أو دخانا طهرت، أما إذا أحالتها خزفاً أو آجُرَّا فلا تطهر.
مذهب الإباضية:
وللإباضية (?) فى النجس إذا صار جمرا أو رمادا قولان:
أحدهما: أنه يطهر بالإحراق.
والثانى: أنه لا يصير طاهراً به، فهو ذات واحدة تغير لونها. أما ما تنجس (أى أصابته نجاسة من غيره) فإنه يطهر بالاحتراق، فيكون جمره ورماده ولهبه طاهرا، لأن ما تنجس بغيره تزول نجاسته بمزيل كالنار، ونصوا على أن النجاسة تزال بالنار، وقالوا: إنها أقوى من الشمس والريح فى إزالة عين النجاسة فيما يتحملها كالأرض والفخار بأن يحمى عليه حتى تطيقُه اليد سواء جعلت النار على موضع النجاسة أو تحته أو وصلته الحرارة التى لا تطيقها اليد حتى ولو لم تترك أثرا.
دخان النجاسات ورمادها
الرأى فى دخان النجاسات ورمادها على وجهين. أحدهما: مبنى على القول بأن الإحراق يطهر النجاسات فيكون دخانها ورمادها طاهرين. والآخر: مبنى على أنه لا يطهرها، والدخان هو أجزاء من النجاسات فلا يكون طاهرا ولا رمادها.
مذهب الحنفية:
قال الأحناف (?) تبعا لرأيهم الراجح: إن دخان النجاسة ورمادها طاهران، فإذا (?) أصاب الثوب أو البدن دخان نجاسة لا ينجسه. وإذا أحرقت العذرة فى بيت فعلا، دخانها وبخارها إلى السقف، وانعقد وذاب أو عرق فأصاب ماؤه ثوبا، لا ينظر استحسانا. قيل ما لم يظهر أثر النجاسة.
مذهب المالكية:
قال المالكية (?) ممن رأوا نجاسة الأشياء النجسة المحروقة، أن دخان النجاسات عند حرقها نجس. وقيل إن دخانها أشد نجاسة من رمادها، وأن رمادها نجس كذلك. وكذلك عرق الحمام من الرطوبات التى به من بول، وعرق، ونجاسات.
فإذا كان الدخان ينعكس على طعام يطهى على نجاسات يوقد بها، فإن كان دخانها ينعكس فى الطعام، فيصل إليه فإن الطعام يكون نجسا فلا يؤكل. وإن كان لا ينعكس فلا بأس به. ولذلك فلا يؤكل الخبز الذى يوقد عليه بأرواث الحمير. ولا يوقد بعظام الميتة على طعاما أو شراب.
وقيل (?) ينبغى أن يرخص فى مصر فى الخبز بالزبل (ومثله الجلة) لعموم البلوى ومراعاة لمن يرى أن النار تطهر النجاسات وإن رماد النجاسة طاهر، وللقول بطهارة زبل الخيل. وقيل لا ينجس بالملاقاة أو العلوق، وهو أن يظهر أثر الدخان فيما أصابه، لا مجرد رائحته.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (?) فى رماد النجاسات لعينها أنه نجس، فلا يطهر السرجين والعذرة وعظام الميتة بالإحراق ورمادها المتخلف عنها نجس.
أما دخانها ففيه وجهان:
أحدهما: أنه نجس لأنه أجزاء متحللة من النجاسة فهو كالرماد.
والثانى: أنه ليس بنجس لأنه بخار نجاسة كالبخار الذى يخرج من الجوف.
وقالوا (?) : إن النار المتصاعدة من الوقود بأعيان نجسة ليست نجسة لأنها ليست من نفس الوقود، وإنما هى تأكل الوقود. فالنار المتصاعدة طاهرة ما لم تختلط بالدخان.
وقيل: يعفى عن القليل من دخان النجاسة. وقيل لا يعفى عنه، فإذا قيل ذلك، فإذا مسح التنور مما علق به من دخان بخرقة يابسة طهر. وإذا مسح بخرقة رطبة يطهر وإلا غسل بالماء.
وقالوا فيما علق بالثوب من دخان النجاسات: إن كان قليلا عفى عنه، وإن كان كثيرا لم يعفه عنه ولم يطهر إلا بالغسل وإذا اسود الرغيف مما لصق به من دخان وقود نجس، كان أسفله نجسا.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (?) : لا تطهر نجاسة بنار. فرمادها ودخانها وبحارها وغبارها نجس.
مذهب الظاهرية:
وقال الظاهرية (?) : إن تراب النجاسات المحروقة طاهر، وذلك تبعا لقولهم بطهارة المحروقات النجسة.
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (?) : إن العذرة والروث والميتة ونحوها إذا صارت رماداً، فالمذهب أن الاستحالة توجب الطهارة، وفى الدخان وجهان.
مذهب الإمامية:
وقال الإمامية (?) : إذا أحالت النار النجاسة رمادا أو دخانا طهرت.
مذهب الإباضية:
وللإباضية (?) قولان فى غبار النجس ورماده. أحدهما: أنه يطهر بالإحراق. والراجح عندهم أنه لا يطهر بالإحراق لأن غبرة الشىء جزء لطيف منه. أما دخانه فقد قالوا بطهارته لأنه لا توجد فيه ذات النجس ولا طعمه ولا لونه ولا رائحة يحكم على النجاسة بها.
أما المتنجس بغيره فلا خلاف عندهم فى طهارة غباره ورماده وجمره ودخانه.
استعمال المحروقات
لا خلاف بين فقهاء المذاهب فى جواز استعمال الرماد المتخلف من محروق طاهر غير أن التيمم بالرماد أو بما خالطه الرماد من تراب الأرض أو بمدفون المحروق فموضعه الكلام على التيمم، انظر "تيمم".
وفيما يحرق من أجل التجمير "تبخير"، فموضعه مصطلح " تجمير ".
الإحراق بأمر الإمام أو ولى الأمر
هناك أحوال شتى يكون فيها للإمام أو ولى الأمر استعمال النار فى الإحراق كما أن ثمة قيودا على استعمال النار فى نواح أخرى.
نتكلم فيما يلى على الفروض التى قيل بجواز الإحراق فيها، وما لا يجوز من المثلة والتعذيب بالنار.
إحراق رحال الغالَّ للغنيمة ومتاعه
نص الحنابلة (?) : على إحراق رحال الغالَّ للغنيمة ومتاعه، واكتفى الحنفية (?) والمالكية (?) والشافعية (?) بالقول بأنه يؤدب، وقال الإمام الشافعى: لا يرجل الغال عن دابته فيحرق سرجه ومتاعه، لأن الرجل لا يعاقب فى ماله، وإنما يعاقب فى بدنه. وإنما جعل الله الحدود على الأبدان، وكذلك العقوبات. وأما المال فلا توقع العقوبة عليه.
وقال الحنابلة: إن حكم الغال- وهو الذى يكتم ما يأخذه من الغنيمة فلا يطلع الإمام عليه ولا يضعه فى الغنيمة- أن يحرق رحله كله.
وقال ابن قدامة: وبهذا قال الحسن وفقهاء الشام، ومنهم مكحول والأوزاعى وأن سعيد بن عبد الملك أتى بغال فجمع ماله وأحرقه وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه.
وقال يزبد بن يزيد بن جابر: إن السنة فى الذى يغل أن يحرق رحله. وقد رواه سعيد فى سننه. والدليل ما روى صالح بن محمد بن زرارة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتى برجل قد غل فسأل سالما عنه فقال: سمعت أبى يحدث عن عمر ابن الخطاب رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه سلم قال:" إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه " ... قال: فوجدنا فى متاعه، مصحفا فسأل سالما عنه فقال: بعه وتصدق بثمنه. فالمصحف لا يحرق إذا غل، وكذلك لا ينبغى أن تحرق كتب العلم والحديث، ولا يحرق الحيوان لنهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يعذب بالنار إلا ربها، ولحرمة الحيوان فى نفسه ولأنه لا يدخل فى اسم المتاع المأمور بإحراقه.
قال ابن قدامة: وهذا لا خلاف فيه.
ولا تحرق كذلك آلة الدابة أى سرج الدابة ونحوه أيضا، نص عليه أحمد، لأنه يحتاج إليها للانتفاع بها ولأنها تابعة لما لا يحرق، فأشبه جلد المصحف وكيسه قال ابن قدامة: قال الأوزاعى: ويحرق سرجه وأكافه (البرذعة) ، ولا تحرق ثياب الغال التى عليه لأنه لا يجوز تركه عريانا، ولا ما غل من غنيمة المسلمين ويرفع إلى المغنم كما قال الإمام أحمد بن حنبل، ولا يحرق سلاحه لأنه يحتاج إليه فى القتال، ولا تحرق نفقته لأن ذلك مما لا يحرق عادة، وجميع ذلك أو ما أبقت عليه النار من حديد أو غيره فهو لصاحبه لأن ملكه ثابت عليه ولم يوجد ما يزيله عنه، وإنما عوقب بإحراق متاعه فما لم يحترق يبقى على ما كان.
قال الإمام أحمد: وإذا استحدث الغال متاعا غير ما كان معه عند الغلول بعد أن رجع إلى بلده، أحرق ما كان معه حال الغلول فقط.
كما قال: وإن مات قبل إحراق رحله لم يحرق لأنها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود ولأنه بالموت انتقل إلى ورثته فإحراقه عقوبة لغير الجانى وإن باع رحله أو وهبه احتمل ألا يحرق لأنه صار لغيره. فأشبه ما لو انتقل عنه بالموت، واحتمل أن ينقض البيع والهبة ويحرق لأنه تعلق به حق سابق على البيع أو الهبة فوجب تقديمه.
وإن كان الغال صبيا لم يحرق متاعه لأن الإحراق عقوبة وهو ليس أهلا للعقوبة. وإن كان عبدا لم يحرق متاعه أيضا لأن المتاع لسيده فلا يعاقب سيده بجناية عبده وإن غلت امرأة أو ذمى أحرق متاعهما لأنهما من أهل العقوبة، وإن أنكر الغلول وذكر أنه ابتاع ما بيده لم يحرق متاعه حتى يثبت غلوله ببينة أو إقرار.
الإحراق فى القتال
إحراق حصون الكفار وإرسال النار عليهم بالمجانيق وغيرها:
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (?) : لا بأس بأن يحرق المسلمون حصون الكافرين وأن ينصبوا المجانيق عليهم لقول الله تعالى" يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين " (?) ، ولأن كل ذلك من باب القتال لما فيه من قهر العدو والنكاية فيه وغيظه، ولأن حرمة الأموال لحرمة أربابها، فكذلك لا تكون ثمة حرمة لأموالهم. وكذلك لما ذكره الزهرى من أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بقطع نخيل بنى النضير وتحريقها فأنزل الله قوله: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله" (?) ، أى أن القطع جائز بإذن الله، ففى هذا بيان أنه كان فيه غيظ لهم وقد أمرنا به لقوله تعالى: (ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ((?) .
وكذلك فقد أمر بحرق قصر عوف بن مالك النضرى بأوطاس.
وكره بعض الحنفية ذلك لما ذكره أبو بكر فى وصيته ليزيد بن أبى سفيان ألا يقطعوا شجرة ولا يخربوا ولا يفسدوا، لقوله تعالى: (وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ((?) .
وقال ابن عابدين: أن الإحراق فى الأصل ممنوع لأنه لا يعذب بالنار إلا ربها. ولكن تحرق الدابة إذا شق نقلها وكانوا ينتفعون لا لو عقرت أو ذبحت، كما تحرق الأسلحة والأمتعة إن تعذر حملها، ويدفن ما لا يحرق بموضع خفى.
مذهب المالكية:
وقال المالكية (?) بجواز التخريب وقطع النخل والحرق إن أنكأ العدو. وأنه لا بأس أن ترمى حصونهم بالمجانيق وأن تحرق فى قراهم وحصونهم بالنار، وذلك إذا لم يكن غير النار وسيلة، وكنا إذا تركناهم خفنا على المسلمين، وأما إذا لم نخف، فقد اختلف الرأى فى جواز إحراق المحاربين بالنار إذا انفردوا ولم يمكن قتلهم إلا بالنار. فقال رأى بجواز ذلك. وقال رأى بعدم جوازه، ما دام لا خوف عليهم من المسلمين.
وقال ابن رشد: أنه يجوز أن يرمى من فى الحصون بالنار إذا لم يكن فيها إلا المقاتلة.
والرأى الظاهر: أن ذلك مندوب لما فيه من غيظ العدو، فقد روى أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بقطع نخل بنى النضير فأنزل الله: (ما قطعتم من لينة (فهى دالة على إباحة القطع، ولا حرج فى الترك.
وقال مالك: الظاهر الأفضل أن القطع أولى من الترك لما فيه من إذلال العدو وصغارهم ونكايتهم لقوله تعالى: (ولا ينالون من عدو نيلا (.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (?) : فى ذلك أنه يجوز حصار الكفار فى البلاد والقلاع ورميهم بنار أو منجنيق أو غيرهما. وقالوا: إنه يجوز إحراق ما لا روح له. أما ما له روح من حيوان فإن قتله محرم لأنه يألم مما أصابه، إلا أن يذبح فيؤكل ولا يحل قتله لمغايظة العدو لقوله صلى الله عليه وسلم: " من قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها، سأله الله عنها "، ولا تحرق حشرة النحل لأنها ذات روح.
وإذا تحصن أهل الحرب بحرم مكة امتنع قتالهم بما يعمهم وغيرهم، وكذا حصارهم تعظيما للحرم، فإذا قامت ضرورة لذلك جاز. وإذا رموا بالمنجنيق فارتد الرمى ورجع وأصاب أحد رجال جيش المسلمين ممن يرمون به، أو غيرهم، فقتله فديته على عواقل الذين رموا بالمنجنيق. فإن كان المصاب أحد الرماة الذين رموا به رفعت حصته من الدية.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (?) : إذا قدر على العدو فلا يجوز تحريقه بالنار بغير خلاف، وإن أمكن أخذ العدو بدون رميهم بالنار لم يجز رميهم، لأنهم فى معنى المقدور عليهم، وأما عند العجز عنهم بغيرها فجائز فى قول أكثر أهل العلم، ويجوز نصب المنجنيق عليهم، لأن النبى صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بالطائف.
مذهب الظاهرية:
وقال الظاهرية (?) : يجوز تحريق أشجار المشركين وأطعمتهم وزروعهم ودورهم وهدمها. وقال الله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله (وقد أحرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بنى النضير.
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (?) : يجوز للإمام ومن يوليه من قبله أن يحرق من حاربه، وأن يرميه بالمنجنيق بشرطين:
أحدهما: أن يتعذر إيقاع السيف فيهم لتحصنهم فى قلاع أو بيوت مانعة أو فى سفينة فى البحر.
الثانى: أن يكونوا فى تلك الحال قد خلوا مما لا يجوز أن يقتل من الصبيان أو النسوة ونحوهم.
فإذا اجتمع هذان الشرطان جاز قتلهم بما أمكن، فلا يجوز الإحراق إلا لضرورة ملجئة وهى تعذر دفعهم عن المسلمين أو تعذر قتلهم.
ويجوز تخريب بيوت المشركين وقطع شجرهم إن لم يمكن إحراقها لقوله تعالى: (ما قطعتم من لينة (. وقد أحرق النبى صلى الله عليه وسلم شجر الطائف وبنى النضير.
وقالوا: إن ما تعذر حمله إلى دار الإسلام، حيث يكون جمادا، كالثياب والطعام ونحوهما يجوز إحراقه.
أما الحيوان فلا يحرق إلا بعد الذبح فإن كان مما يستبيحون أكله، أو ينتفعون به بعد الذبح يحرق وأما ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به وهو ميتة فلا وجه لإحراقه.
مذهب الإمامية:
وقال الإمامية (?) : يجوز محاربة العدو بكل ما يرجى به الفتح كهدم الحصون والرمى بالمجانيق، ويكره رميهم بالنار إلا لضرورة، فإن أدى ذلك إلى قتل نفس محترمة فيحرم الرمى بالنار إن أمكن بدونه، وأما إذا توقف الفتح عليه فوجب الإحراق فى القتال إذا وجد فى العدو مسلم أو من لا يقتل
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (?) : إذا كان فى الحصن ونحوه نساء أو صبيان أو أسرى من المسلمين أو تجار مسلمون، فلو قدر على التمييز فعلا بين المحاربين وبين هؤلاء لزمنا ذلك فلا يحل إذن رمى النساء والصبيان والأسارى، فإذا كانوا يقصدون المشركين ولا يمكنهم التمييز جاز الرمى بالنار والإحراق. قالوا: وذلك حتى لا ينسد باب الجهاد بأن يعمد العدو إلى الاحتفاظ معه بمن لا يجوز قتلهم ليعرقل الحرب، وكذلك إذا تترسوا بأطفال المسلمين فلا بأس بالرمى إليهم بضرورة إقامة الفرض، فإن أصابوا مسلما فلا دية ولا كفارة.
وقال الحسن بن زياد: تجب الدية والكفارة، لأن دم المسلم معصوم، والضرورة فى رفع المؤاخذة لا لنفى الضمان كتناول مال الغير فى مخمصة رخص فيه، ولكن مع الضمان.
مذهب المالكية:
وقال المالكية (?) : إذا كان فى الحصن مع المقاتلين أسرى مسلمون فلا يرمون بالنار، وإذا كان فى الحصن نساء وصبية من المشركين فقد قيل فى المدونة أنه يجوز أن يرموا بالمجانيق ولا يجوز أن يحرقوا.
وقال ابن رشد فى السفن فيها الأسارى المسلمون أو النساء أو الصبيان قولان: قول أنه يجوز رميهم بالنار وقول أنه لا يجوز ذلك.
وإن تترسوا بمسلم لم يقصد الترس إذ لا يستباح دم المسلم، إلا إذا خيف أن يؤدى تركهم إلى انهزام المسلمين واستئصال قاعدة الإسلام، فإنه يجب الدفع وتسقط حرمة الترس.
وقد قال المالكية أنه إذا اضطر الجيش إلى التخلى عن الخيل أو الحيوان فى أرض العدو، فإنها تعرقب (اى تقطع عراقيبها) فإن خيف أكلها فإنها تحرق، وذلك إذا كانوا يأكلون الميتة.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (?) : إذا كان فى المشركين الذين يجرى قتالهم مسلم أو أسير أو تاجر مسلم جاز حصارهم وقتلهم بما يعم، فإن الأمر محمول على ما فيه مصلحة المسلمين لئلا يعطلوا الجهاد علينا بحبسهم مسلما عندهم. ولكن يجب توقى ذلك ما أمكن ويكره عند عدم الاضطرار إليه تحرزا من إيذاء المسلم ما أمكن، ومثله فى ذلك الذمى.
ولا ضمان عندهم فى قتل المسلم أو الذمى فى ذلك، لأن الفرض أنه لم تعلم عينه، أى أن المسلمين رموا أو أحرقوا ولا يعلمون بخصوص ذات من فيهم من المسلمين، ويجوز رميهم بالنار والمنجنيق ولو كان فيهم النساء والصبيان لقوله تعالى " فخذوهم واحصروهم "، ولأنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق.
وقال الإمام الشافعى: لا بأس أن ينصب المنجنيق على الحصون دون البيوت التى بها الساكن، إلا أن يلتحم المسلمون قريبا من الحصون فلا بأس أن ترمى البيوت. وإذا كان فى الحصون والبيوت مقاتلة محصنون رميت الحصون والبيوت ولو التحموا فى حرب فتترسوا بنساء وخناثى وصبيان ومجانين منهم، جاز رميهم إذا دعت الضرورة لذلك، فإذا دفعوا بهم عن أنفسهم ولم تدع الضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم، لئلا يؤدى الرمى إلى قتلهم بغير ضرورة.
قالوا: ولكن المعتمد جوازه مع الكراهية وهو قياس على ما مر من قتلهم بما يعم.
وقيل: يشترط لذلك أن يكون القصد هو التوصل إلى رجالهم.
وإن تترسوا بمسلمين أو ذميين فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم وجوبا صيانة لهم، وهم يختلفون فى ذلك عن الذرية والنساء المشركات لأن حرق المسلم أو الذمى لأجل الدين، وأما حرق الذرية والنساء فلحفظ حق الغانمين خاصة. وإلا فإذا تترسوا بمسلمين أو ذميين حال الالتحام فى الحرب اضطررنا لرميهم بأن كنا لو كففنا عنهم ظفروا بنا أو عظمت مكانتهم فينا، جاز رميهم على الأصح على قصد قتال المشركين، وفى سبيله ويتوقى المسلمون بحسب الإمكان، لأن مفسدة الكف عنهم أعظم ولا يكون ذلك عند الخوف، لأن دم المسلم أو الذمى لا يباح بالخوف.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (?) : وإذا تضمن رمى الكفار إتلاف النساء والذرية الذين يحرم إتلافهم قصدا، وكان لا يقدر عليهم إلا بذلك، جاز الرمى بالنار والإحراق.
وإن تترس الأعداء أثناء الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم بقصد المقاتلة، لأن النبى صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجيق ومنهم النساء والصبيان، ولأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند حرقهم فينقطع الجهاد.0. وذلك سواء كانت الحرب ملتحمة أو غير ملتحمة، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحين بالرمى حال التحام الحرب.
وقالوا: إن تترسوا بمسلم ولم تدع الحاجة إلى رميهم، لكون الحرب غير قائمة أو لإمكان القدرة عليهم بدونه، أو للأمن من شرهم، لم يجز رميهم، فإن رماهم فأصاب مسلما فعليه الضمان، وإن دعت الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم لأنها حالة ضرورة، وذلك إذا لم يقدر عليهم إلا بالرمى وكانت الحرب قائمة، لأن ترك ذلك يفضى إلى تعطيل الجهاد ... فعلى هذا، فإن قتل الرامى مسلما فعليه الكفارة، وفى الدية رأيان: أحدهما أنها تجب لأنه قتل مؤمنا خطأ فيدخل فى عموم الآية.. (ومن قتل مؤمنا خطأ (والثانى: أنه لا دية عليه لأنه قتل فى دار الحرب برمى مباح فيدخل فى عموم قوله تعالى: (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة (، ولم يذكر الدية.
مذهب الزيدية:
واشترط الزيدية (?) لرمى المشركين بالنار وحرقهم ألا يكون معهم صبية أو نساء، وإلا فلا يجوز الإحراق إلا لضرورة ملجئة، وهى تعذر دفعهم عن المسلمين أو تعذر قتلهم دون الترس.
مذهب الإمامية:
وقال الإمامية (?) : لو تترس الأعداء بالنساء أو الصبيان منهم كف عنهم إلا فى حال التحام الحرب، وكذا لو تترسوا بالأسارى من المسلمين.
فإذا قتل الأسير المسلم ولم يكن من الممكن جهادهم إلا كذلك، فلا يلزم القاتل بالدية. وفى الكفارة خلاف، فقال بعضهم تلزمه " الكفارة "، وقال البعض الآخر لا تلزمه.
الإحراق فى قتال البغاة
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (?) : يقاتل أهل البغى بالمنجيق والحرق وغير ذلك مما يقاتل به أهل الحرب، لأن قتالهم لدفع شرهم وكسر شوكتهم، فيقاتلون بكل ما يحصل به ذلك.
مذهب المالكية:
وقال المالكية (?) : إن قتال البغاة يقصد به ردعهم فقط وليس قتلهم، فهو يختلف عن قتال الكفار فى ذلك، ولذلك تنصب عليهم الدراعات ولا تحرق مساكنهم ولا يقطع شجرهم.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (?) : لا يقاتل البغاة بعظيم يعم كنار أو منجنيق.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (?) : لا يقاتل البغاة بما يعم إتلافه كالنار من غير ضرورة، فإن دعت الضرورة لذلك كما لو حاصر البغاة أهل العدل فلم يمكنهم التخلص إلا برميهم بما يعم، جاز ذلك.
وأما المرتدون فقد قالوا أن أبا بكر كان يأمر بتحريقهم بالنار. وفعل خالد بن الوليد ذلك بأمره.
وقال فى منتهى الإرادات غير ذلك.
لأنه إذا أصر المرتد على ردته قتل بالسيف ولا يحرق بالنار لحديث " إن الله كتب الإحسان على كل شىء فإذا قتلتم فأحسنوا القتل " وحديث " من بدل دينه فاقتلوه ولا تعذبوا بعذاب الله " (يعنى النار) قال: رواه البخارى.
مذهب الظاهرية:
وقال الظاهرية (?) : لا يحل قتال أهل البغى بنار تحرق من فى الحصن من غير أهل البغى لقوله تعالى " ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولاتزر وازرة وزر أخرى"، أما إذا لم يكن فيه إلا البغاة فقط، فيقاتلون حتى ينزلوا إلى الحق. ويجوز أن توقد النيران حولهم ويترك لهم مكان يتخلصون منه إلى عسكر أهل الحق (أى المسلمين) ، ولا يحل حصارهم بالنار دون أن يجعل لهم منفذا، لأن الله تعالى لم يأمر بذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما أمر بالمقاتلة فقط.
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (?) : يحرق الباغى ويغرق ويخنق إن تعذر قتلهم بالسيف وخلوا عمن لا يقتل كالنساء والصبيان، ويجوز للحاكم تعزير أهل البغى بإحراق دورهم وهدمها.
مذهب الإمامية:
وقال الإمامية (?) : إن القصد من محاربة البغاة تفريق كلمتهم، فقتالهم أقل من جهاد المشركين.
مذهب الإباضية:
وقال الإباضية (?) : ويمنع فى القتال بين الفئة الباغية وغيرها من إشعال النار فيما بينهم وقت اصطفافهم لقتال لا بقصد إحراق أو موت. ولكن لا ضمان ان أصيبوا ولو قصدوهم بالحريق.
إحراق آلات اللهو والخمر ودور ال
إحراق آلات اللهو والخمر ودور الفسق
والكتب الباطلة والصلبان
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (?) : يجوز إحراق بيت الخمر، فقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه أحرق بيت الخمار، وعن الإمام الزاهد الصفار أنه أمر بتخريب دار الفاسق بسبب الفسق. وقال أبو يوسف يحرق الزق أو يخرق إذا كان فيه خمر لمسلم أو لنصرانى
مذهب المالكية:
وقال المالكية (?) إن من قال بأن العقوبة المالية منسوخة فقد غلط على مذاهب الأئمة نقلا واستدلالا.
وأورد القرافى أمثلة عديدة للإحراق وغيره من طرق التعزير تساوى فيه القليل والكثير ومن ذلك تحريق عمر للمكان الذى يباع فيه الخمر وتحريق قصر سعد ابن أبى وقاص لما احتجب عن الناس فيه وصار يحكم فى داره وأن أبا بكر" رضى الله عنه" استشار الصحابة فى رجل ينكح كما تنكح المرأة فأشاروا بحرقه بالنار، فكتب أبو بكر رضى الله عنه- بذلك إلى خالد بن الوليد ثم حرقهم عبد الله بن الزبير فى خلافته، ثم حرقهم هشام بن عبد الملك. وهو رأى ابن حبيب من الحنابلة، وذكره فى مختصر الواضحة وأن أبا بكر حرق جماعة من أهل الردة ... قال وغير ذلك من القضايا مما يكثر تعداده وهى شائعة فى مذهب مالك وابن حنبل.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (?) :لا يجوز توقيع العقوبة على المال وأن العقوبة توقع على البدن وقد أجاب الإمام الشافعى بذلك كما تقدم فى سؤاله عن حرق متاع الغال وإنما إذا أصابوا فى القتال كتبا فيها كفر لم يجز تركها على حالها لأن النظر فيها معصية وإن أصابوا التوراة والإنجيل لم يجز تركها على حالها لأنها مبدلة فإن أمكن الانتفاع بما كتب عليه كالجلود غسل، وإن لم يمكن حرق.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (?) :إن إتلاف المال على وجه التعزير والعقوبة ليس بمنسوخ وقالوا: يجوز إتلاف المنكرات من الأعيان والصور وإتلاف محلها تبعا لها مثل الأصنام المعبودة من دون الله، ولما كانت صورها منكرة فإنه يجوز إتلاف مادتها فإذا كانت حجرا أو خشبا أو نحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها وكذلك آلات الملاهى كالطنبور يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء ومن الإتلاف إحراقها وقال أبو الحصين: كسر رجل طنبورا فخاصمه إلى شريح فلم يضمنه شيئا وقد رجحه ابن القيم لأن الله سبحانه وتعالى اخبر موسى - عليه السلام- أن يحرق العجل وكان من ذهب وفضة، وذلك محق بالكلية.
وأن النبى صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر كتابا اكتتبه من التوراة وأعجبه موافقته للقرآن فتمعر (أى ظهر الغضب على وجهه صلى الله عليه وسلم) حتى ذهب عمر إلى التنور فألقاه فيه.
وأنه يجوز إحراق آلات السحر والتنجيم ومخازن الخمر وحرق الصحابة جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان لما خافوا على الأمة من الاختلاف 0 وكذلك الكتب المشتملة على بدعة تتلف ولا ضمان على إتلافها وإحرقها.
وقالوا: يحرق بيت الخمار وأماكن المعاصى وأنه يستحب أن يحرق بيت المسلم الخمار الذى يبيع الخمر وكذلك النصرانى يبيع الخمر للمسلمين فإن لم ينته فإنه يحرق بيته عليه بالنار. وحرق عمر بن الخطاب بيت روشن الثقفى لأنه كان يبيع الخمر.
وقال ابن قدامة: إن أبا بكر أمر بتحريق أهل الردة بالنار ونقل خالد بن الوليد ذلك، وإنما روى حمزة الأسلمى أن النبى "صلى الله عليه وسلم" قال: إن أخذتم فلانا فأحرقوه بالنار ثم رجع فقال إن أخذتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار.
مذهب الظاهرية:
وعند الظاهرية (?) : قال أبو محمد بن حزم: إنه يجوز إحراق بيت الخمار كفعل عمر ابن الخطاب "رضى الله عنه" ويكون ذلك حدا مفترضا، لأن عمر فعله. وروى أن من فعل فعل قوم لوط يحرق عند البعض بالنار إلا أنه ضعف الأحاديث التي استدل بها فى ذلك، لأنه قد صح أنه لا قتل عليه، وحكمه حكم من أتى منكرا فالواجب بأمر النبى صلى الله عليه وسلم تغييره باليد أو الفعل أو القول.
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (?) : تحرق دفاتر الكفر وكتب الزنادقة والمشبهة وأوراقهم، وذلك إن تعذر تسويدها وردها إلى المالك وإذا وجدت فى الغنيمة دفاتر كفر فتحرق إن لم يمكن محوها. أما التوراة والإنجيل فتمحى ولا تحرق، وكذلك سائر الصحف النبوية فأما جلد الميتة وعصبها فيحرق لتحريم استعماله. وقالوا كذلك بإحراق آلات اللهو والطرب.
إحراق المصاحف
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (?) : لا تحرق المصاحف إذا صار المصحف خلقا "أى باليا " أو تعذرت قراءته فلا يحرق بالنار بل يجعل فى خرقة طاهرة ويدفن.
مذهب المالكية:
وقال المالكية (?) إذا احرق شخص المصحف استخفافا لا صونا، كان ذلك فعلا يتضمن الردة، وعليه فيكون مرتدا وقالوا: إن المراد بالمصحف ما فيه قرآن ولو كلمة ومثل ذلك أسماء الله الحسنى وأسماء الأنبياء والحديث وكتب الفقه، فإن حرق كل ذلك على وجه الاستخفاف لا يجوز، فإن كان على وجه الصيانة فلا ضرر.
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (?) إن حرق المصاحف من أسباب الردة والعياذ بالله.
تحريم المثلة والتعذيب بالنار والقتل بها
وردت الأحاديث علي عدم جواز المثلة والتعذيب بالنار والقتل بها لقوله "صلي الله عليه وسلم" لا يعذب بالنار إلا رب النار" رواه أبو داود (?) فلا يجوز إقامة الحد أو التعزير بالنار انظر " آلة ".
إلا أنه إذا كان الجانى قد أحرق من جنى عليه، كأن يكون قد طرحه فى النار، فإنه يعاقب بمثل ما جنى، انظر: " الجناية على النفس بالإحراق ".
مذهب المالكية:
قال المالكية (?) فى تعزير شاهد الزور: لا يجوز تسخيمه بسواد كالفحم، كما يفعل فى بعض البلاد لأنه حرام وتغيير لخلق الله
مذهب الزيدية:
وقال الزيدية (?) : يجوز تعزير أهل البغى بإحراق دورهم وهدمها، وكذلك يجوز إحراق مال المحتكر مع حاجة المسلمين إليه.
مذهب الإباضية:
وقال الإباضية (?) يجوز القتل بالنار إذا امتنع من يراد القصاص منه عند التنفيذ، وقد بينا من قبل خلاف الحنابلة فى جواز حرق المرتد. وأن ابن قدامة أجاز ذلك ولم يجزه صاحب منتهى الإرادات، وكذلك نصت بعض المذاهب على أن المثلة بعد النصر فى القتال غير جائزة (?) . وأنه إذا قدر على العدو فلا يجوز تحريقه بالنار (?) ونصت بعض المذاهب (?) أيضا على عدم جواز إحراق العبد بالنار أو التمثيل به أو وسم أى عضو منه بما يحرق وأنه إذا تعرض لذلك يعتق الجناية على الأموال بالإحراق.
وضمان ما يحرق من المال
من يتسبب فى الجناية على مال بإحراقه ضمن، وفى ذلك:
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (?) انه لو وضع فى الطريق جمرا فاحترق به شىء كان ضامنا، لأنه كان متعديا بوضع النار فى الطريق وإن حركته الريح فذهبت به إلى موضع آخر ثم أحترق به شىء لا يكون ضامنا. وقالوا هذا إذا لم يكن اليوم ريحا، فإن كان ريحا كان ضامنا لأنه علم حين ألقاه فى الطريق أن الريح تذهب به إلى موضع آخر، فيضاف التلف إليه فيكون ضامنا، ولو أن رجلا مر فى ملكه وهو يحمل نارا فوقعت شرارة منها على ثوب إنسان فاحترق ... ذكر فى النوادر أنه يكون ضامنا، ولو طارت الريح بشرر ناره وألقته على ثوب إنسان لا يضمنه لأن الاحتراق حصل من الريح هاهنا. هذا إذا كان فى موضع له حق المرور فيه، فإن لم يكن له حق المرور فى ذلك الموضع يكون ضامنا. ولو أحرق كلأ أو حصائد فى أرضه فذهبت النار يمينا وشمالا وأحرقت شيئا لغيره لم يضمنه لأنه غير متعد.
مذهب المالكية:
ويذهب المالكية (?) إلى مثل ما ذهب إليه الحنفية فقالوا: من أجج نارا" أى أشعلها" فى يوم عاصف (أى شديد الريح) فأحرقت شيئا فإنه يضمنه إلا أن يكون ذلك فى مكان بعيد لا يظن وصول النار إلى الشىء الذى حرق فإنه لا ضمان عليه حينئذ، كذلك لا ضمان على من أجج نارا فى وقت لا ريح فيه، ثم أن الريح عصفت عليها فنقلتها إلى متاع شخص فأتلفته.
مذهب الشافعية:
وقال الشافعية (?) بمثل هذا المذهب أيضا، فنصوا على أنه إن سقط الشرر على مال بعارض ريح ونحوها لم يضمن، لأن التلف لم يحصل بفعله، ولو أوقد نارا فى أرضه فحملتها الريح إلى أرضه غيره فأتلفت شيئا أو أجج على سطحه نارا فطارت شرارة إلى دار الجار فأحرقتها فان كان الذى فعله قد جرت به العادة لم يضمن لأنه غير متعد، وإن فعل ما لم تجر به العادة بأن أجج من النار ما لا يقف على حد داره ضمن لأنه متعد.
مذهب الحنابلة:
وقال الحنابلة (?) كذلك بهذا الرأى، فقالوا: إذا أوقد بملكه نارا أو فى موات فطارت شرارة إلى دار جاره فأحرقتها لم يضمن إذا فعل ما جرت به العادة من غير تفريط لأنه غير متعد. ولأنها سراية فعل مباح، وإن كان ذلك بتفريط منه بأن أجج نارا تسرى فى العادة لكثرتها أو فى ريح شديدة تحملها أو أوقد فى دار غيره ضمن ما تلف به، وإن سرى إلى غير الدار التى. أوقد فيها لأنها سراية عدوان وإن أوقد نارا فأيبست أغصان شجر غيره ضمنه، لأن ذلك لا يكون إلا من نار كثيرة إلا أن تكون الأغصان فى هوائه (أى داخلة فى ملكه) فلا يضمنها، لأن دخولها عليه غير مستحق.
وجاء فى كشاف القناع: وإن أجج نارا فى موات أو فى ملكه بأن أوقد النار حتى صارت تلتهب فى داره أو علي سطحه فتعدى إلى ملك غيره فأتلفه لم يضمن الفاعل، لأن ذلك ليس من فعله ولا تعديه ولا تفريطه وذلك إذا كان التأجج ما جرت به العادة بلا إفراط ولا تفريط، فإن فرط بأن ترك النار مؤججة ونام فحصل التلف بذلك وهو نائم ضمن لتفريطه، أو فرط بأن أجج نارا تسرى فى العادة لكثرتها أو أججها فى ريح شديدة تحملها إلى ملك غيره ضمن لتعديه، وكذا لو أججها قرب زرب (أى حظيرة المواشى) أو حصيد، ولا يضمن إن تعدت النار لطيران الريح بعد أن لم تكن لعدم تفريطه قال فى عيون المسائل: لو أججها على سطح دار فهبت الريح فأطارت الشرر لم يضمن لأنه فى ملكه ولم يفرط، وهبوب الريح ليس من فعله.
مذهب الظاهرية:
وعند الظاهرية (?) : جاء فى المحلى: من أوقد نار ليصطلى أو ليطبخ شيئا وأوقد سراجا ثم نام فاشتعلت تلك النار فأتلفت أمتعة وناسا فلا شىء عليه فى ذلك أصلا لأنه غير متعد. أما إذا تعدى فعليه الضمان لقول الرسول" صلى الله عليه وسلم " النار جبار"، وهو خبر صحيح تقوم به الحجة فوجب بهذا أن كل ما تلف بالنار فهو هدر إلا نار اتفق الجميع على تضمين طارحها، وليس ذلك إلا ما تعمد الإنسان طرحه للإفساد والإتلاف، فهذا مباشر متعد.
مذهب الزيدية:
وعند الزيدية (?) :من أجج ناراً فى ملكه فحملتها الريح إلى موضع فأهلكت مالا فيه، فإنه لا يضمن. لأنها انتقلت عن وضعه، إلا أن يكون الموضع متصلا أو فى حكم المتصل كأن يصله لهب النار أو كما لو كان بين الملكين شجر ونحوه فتسرى فيه النار إلى ملك الآخر فإنه يضمن، وإذا كان متعديا بوضعها ضمن ما تولد منها ولو بهبوب الريح.
مذهب الإمامية:
وعند الإمامية (?) لو أجج نارا فى ملكه ولو للمنفعة فى ريح معتدلة أو ساكنة لم يزد النار عن قدر الحاجة التى أضرمها لأجله فلا ضمان، لأن له التصرف فى ملكه كيف شاء، وان عصفت الريح بعد إضرامها بغتة لعدم التفريط، وألا يفعل كذلك بأن كانت الريح عاصفة حالة الإضرام على وجه يوجب ظن التعدى إلى ملك الغير أو زاد عن قدر الحاجة، وإن كانت ساكنة ضمن سرايتها إلى ملك غيره. ولو أججها فى موضع ليس له ذلك فيه ضمن، ولو أججها فى المباح، فالظاهر أنه كالملك لجواز التصرف فيه.
الجناية على النفس بالإحراق
مذهب الحنفية:
قال الحنفية (?) : إذا أحرق رجل رجلا بالنار قتل به (أى بالإحراق) لأن النار تفرق الأجزاء أو تبعضها.
مذهب المالكية:
وعند المالكية (?) : يقتل القاتل بما قتل به ولو نارا، لقوله تعالى " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به "، وقوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم "، والمعنى أن الحق فى القتل للولى بمثل ما قتل به الجانى، ومن خاف من النار على زرعه أو على نفسه أو على داره فقام ليطفئها فاحترق فيها فإن دمه يكون هدرا، وظاهره أن الحكم فيه هو هذا سواء كان فاعلها يضمن ما أتلفته كما إذا هيجها فى يوم عاصف، أم لا وهو ظاهر حل البساطى.
مذهب الشافعية:
وعند الشافعية (?) يقتل بإلقاء النار من فعل ذلك بغيره ويخرج منها قبل أن يشوى جلده ليتمكن من تجهيزه وإن أكلت النار جسد الأول، ولو ألقى فى النار مثل مدته فلم يمت، زيد من ذلك الجنس حتى يموت ليقتل بما قتل به، ولو ألقاه فى نار يمكن الخلاص منها فمكث ففى وجوب الدية قولان أظهرهما: لا دية ولا قصاص فى ذلك، أما إذا لم يمكنه الخلاص من النار لعظمها أو نحو زمانه فيه (مرض أو عجز) فيجب القود.
مذهب الحنابلة:
وعند الحنابلة (?) لا يجوز استيفاء القصاص فى النفس إلا بالسيف فى العنق سواء كان القتل به أو بمحرم لعينه كتحريق وذلك للنهى عن المثلة.
ومن ألقى شخصا فى نار لا يمكنه التخلص منها إما لكثرة النار أو لعجزه عن التخلص لمرض أو صغر، وكان مربوطا أو منعه الخروج فهو قتل عمد لأنه يقتل غالبا.
وان تركه فى نار يمكنه التخلص منها لقلتها أو كونه فى طرف منها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يخرج حتى مات فلا قود لأن هذا لا يقتل غالبا، وهل يضمنه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه لأنه مهلك لنفسه بإقامته فلم يضمنه لكن يضمن ما أصابت النار منه.
والثانى: يضمنه لأنه جان بالإلقاء المفضى إلى الهلاك وترك التخلص لا يسقط الضمان والنار يسيرها مهلك.
مذهب الظاهرية:
وقال الظاهرية (?) : إن من عمد إلى إحراق قوم فعليه القود وإن لم يعمد ذلك فهو قاتل خطأ، والديات على عاقلته والكفارة عليه لكل نفس كفارة، انظر " كفارة ".
مذهب الزيدية:
ويذهب الزيدية (?) إلى أن من أحرق فالقصاص بالسيف لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا قود إلا بالسيف "، أما قوله صلى الله عليه وسلم: " من غرق غرقناه، ومن حرق حرقناه "، ورضخه صلى الله عليه وسلم: "رأس اليهودى فلعله لمصلحة كتحريق على عليه السلام الغلاة، وأبى بكر الفجاءة ونحوه مما يجوز للإمام، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا يعذب بالنار إلا رب النار"
مذهب الإمامية:
وعند الإمامية (?) لو طرحه فى النار فمات قتل به ولو كان قادرا على الخروج ولأن النار قد تشنج الأعصاب بالملاقاة فلا يتيسر الفرار أما لو علم أنه ترك الخروج تخاذلا فلا قود، لأنه أعان على نفسه وينقدح أنه لا دية له أيضا لأنه مستقل بإتلاف نفسه، أما لو خرج فترك المداواة فمات فإن له الدية لأن السراية مع ترك المداواة ناشئة من الجرح المضمون والتلف من النار ليس بمجرد الإلقاء بل بالإحراق المتجدد الذى لولا المكث لما حصل ولو قصد بتأجيج النار الإتلاف فهو عامد يقاد فى النفس مع ضمان المال 00 انظر " آلة، قصاص ".