معنى الاحتكار فى اللغة
جاء فى المصباح: احتكر فلان الطعام، إذا حبسه إرادة الغلاء، والاسم الحكرة، مثل الغرفة من
الإغتراف، والحكر (يفتح الحاء والكاف أو اسكانها) بمعنى الاحتكار.
وعرف صاحب القاموس الحَكْر، بفتح الحاء وسكون الكاف بأنه الظلم وإساءة المعاشرة، وقال أن بالتحريك اى الحكر بفتحتين: ما احتكر أى حبس انتظارا لغلائه كالحكر بضم الحاء، فيكون اسما من الاحتكار. ونقل الصنعانى (?) عن النهاية لابن الأثير فى شرح قول النبى صلى الله عليه وسلم: " من احتكر طعاما.. " اى اشتراه وحبسه ليغلو فيغلو.
ومن هذا يتبين بوضوح أن معانى المادة كلها تدور حول الظلم فى المعاملة وحبس شىء من الأشياء لاستبداد بشأنه.
ومنه ما ورد فى استعمال الشريعة من عصر النبوة إلى أن عرفه الفقهاء فى كتبهم بما لا يخرج عن ذلك فى الجملة.
التعريف الفقهى للاحتكار
يقول الحصكفى من الأحناف فى شرح الدر المنتقى (?) نقلا عن الشر نبلالية عن الكافى: أن الاحتكار شرعا اشتراء الطعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء أربعين يوما لقوله عليه الصلاة والسلام: " من احتكر على المسلمين أربعين يوما ضربه الله بالجذام والإفلاس ".
ثم قال: وقيل شهر وقيل كثر، وبين الحصكفى أن تكثيرة مدة الأيام لا معاقبة فى الدنيا بنحو البيع والتعزير. لا للإثم لحصونه وإن قلت المدة، وتفاوت الإثم بين تربص المحتكر لعزة الطعام وندرته أو للقحط.
وقد رجعنا إلى حاشية الشر نبلالى على درر الحكام شرح غرر الأحكام (?) فوجدنا ما يأتى تعليقا على قول صاحب الغرر:
كره احتكار قوت البشر والبهائم: الاحتكار حبس الطعام للغلاء افتعال من حكر إذا ظلم ونقص وحكر بالشىء إذا أستبد به وحبسه عن غيره، وتقييده بقوت البشر والبهائم قول أبى حنيفة ومحمد وعليه الفتوى، وقال أبو يوسف: كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار وإن كان ذهبا أو فضة أو ثوبا. كذا فى الكافى.
وأما تقدير مدة حبس الطعام فقد ورد فى كلام صاحب الدرر إذ يقول: " ومدة الحبس قيل أربعون يوما وقيل شهر وهذا فى حق المعاقبة فى الدنيا، لكن يأثم وإن قلت المدة ".
ويقول البابرتى (?) الحنفى: إن المراد بالاحتكار " حبس الأقوات تربصا للغلاء " وهذا التعريف أقرب إلى ما أورده الشرنبلالى فإنه لم يقيد الحبس بكونه على سبيل الشراء، ولم يذكر نحو الأقوات، وقد اختلف كل منهما عن الحصكفى من هاتين الناحيتين.
وقد وافق صاحب الاختيار الحصكفى فى تقييد الحبس بكونه على سبيل الشراء وإن كان قصر على الطعام كالبابرتى والشرنبلانى، وأشار صاحب الاختيار الموصلى الحنفى إلى شمول الاحتكار للشراء من المصر أو من مكان يجلب طعامه إلى مصر، فقال (?) : " إن الاحتكار أن يبتاع الشخص طعاما من المصر أو من مكان يجلب طعامه إلى المصر ويحبسه إلى وقت الغلاء".
ونبه الكاسانى الحنفى إلى قيد يفيد حكمة المنع من الإحتكار (?) : فأضاف إلى التعريف قيد أن يكون ذلك يفر بالناس بدل قولهم (إلى وقت الغلاء) .
مذهب المالكية:
أما المالكية فيصورون الاحتكار بما تفيده عبارة المدونة برواية سحنون (?) : أنه سمع مالك، يقول: الحكرة فى كل شىء فى السوق من الطعام والزيت والكتان والصوف وجميع الأشياء وكل ما اضر بالسوق فيمنع من يحتكر شيئا من ذلك كما يمنع من احتكار الحب ".
والمالكية فى هذا التعميم يتفقون مع أبى يوسف فى عدم قصر الإحتكار على الطعام.
مذهب الشافعية:
عرفه الرملى الشافعى بقوله (?) : أنه اشتراء القوت وقت الغلاء ليمسكه ويبيعه بعد ذلك بأكثر من ثمنه للتضييق.
وبمثله عرفه الإمام النووى الشافعى فى شرحه لصحيح مسلم (?) وقد انفرد هذا التعريف بتقييد الشراء بكونه وقت الغلاء.
مذهب الحنابلة:
وعرفه ابن قدامة الحنبلى فى المغنى بقوله (?) : الاحتكار المحرم هو ما اجتمع فيه ثلاثة شروط: أن يشترى، وأن يكون المشترى قوتا، وأن يضيق على الناس بشرائه. فهو يتفق مع من يقول ممن قدمنا أن الاحتكار يتحقق بالشراء وتخصيصه بالقوت.
مذهب الظاهرية:
وأما ابن حزم الظاهرى فقد وافق الجميع فى اعتبار الإضرار بالناس قيدا فى الاحتكار الممنوع، واتجه إلى أنه مرتبط بالشراء ولم يقصره على الطعام وعبارته (?) : الحكرة المضرة بالناس حرام، سواء فى الابتياع أو إمساك ما ابتاع، " والمحتكر فى وقت الرخاء ليس آثما ".
مذهب الزيدية:
والزيدية يخصونه بأن المحبوس قوت آدمى أو بهيمة، ويعممون فى الحبس بما يشمل ما يكون على سبيل الشراء أو غيره ويصور مذهبهم ما جاء فى البحر الزخار (?) من قولهم: يحرم احتكار قوت الآدمى والبهيمة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم- " من احتكر الطعام " (أى الخبز ونحوه) فإنه لم يخصه بالشراء وبذأ يتحقق الاحتكار عندهم مما يكون حبسه بعد الشراء أو الحصول عليه من زراعته، كما يشمل ما إذا كان الشراء من المصر أو كان مجلوبا من خارجها.
مذهب الإمامية:
وعرف الشيعة الإمامية الحكرة (?) : بأنها جمع الطعام وحبسه يتربص به الغلاء، وحصروا الطعام الذى يتحقق فيه الاحتكار فى سبعة أشياء، هى: الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت والملح. فهم لا يخصونه بالشراء وينفردون بقصر الطعام على هذه الأنواع.
مذهب الإباضية:
وعرفه الإباضية (?) بأنه شراء مقيم من سوق أو من غيره بالنقد أو غيره طعاما ينتظر به الغلاء فهم يخصون الاحتكار بشراء المقيم للطعام، ويصرحون بأن من أخذ الطعام من غيره فى دين أو مقاضاة أو أرش أو أجرة أو ارث أو هبة فلا يكون ذلك من الاحتكار المحظور، وقد ألحقوا بالمقيم فى تحقق الاحتكار الممنوع المسافر الذى يتجر بمال المقيم الذى يتجر بمال المسافر فلا يكون من الاحتكار الممنوع، واختلفوا فى الطعام الذى يكون فيه الاحتكار فجعله بعضهم عاما فى كل ما يطعم ولو رهنا أو شرابا، وخصه بعضهم بالحبوب الستة، وخصه بعضهم بما يسمى فى العرف طعاما، وبعضهم خصه بالبر والشعير.
حكم الاحتكار الأخروى
الاحتكار الذى تتحقق فيه القيود المذكورة على اختلاف المذاهب فيها كما بينا محظور أجماعا غير أنه قد اختلفت عبارات الفقهاء فى التعبير عن هذا الحظر. فمنهم من صرح بالحرمة، ومنهم من صرح بالكراهة، ومنهم من اكتفى بلفظ المنع الصادق بكل من التحريم والكراهة. فالكاسانى الحنفى يقول (?) : تتعلق بالاحتكار أحكام منها الحرمة لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المحتكر ملعون والجالب مرزوق؟، ولا يلحق اللعن إلا بمباشرة المحرم، وروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برىء من الله وبرىء الله منه ".
ومثل هذا الوعيد لا يلحق إلا بارتكاب الحرام، وساق دليلا آخر عقليا يرجع إلى أن الاحتكار من باب الظلم والظلم حرام، وقال بعد ذلك أن قليل مدة الحبس وكثيرها سواء فى حق الحرمة لتحقق الظلم.
ويمثل ذلك صرح الشبراملسى الشافعى فقد قال (?) : إن النهى المتعلق بالاحتكار نهى تحريم، وأيضا فان ابن حجر الهيثمى الشافعى يعتبره من الكبائر ويقول (?) : أن كونه كبيرة هو ظاهر الأحاديث الواردة فى النهى عن الاحتكار لوجود الوعيد الشديد كاللعنة وبراءة ذمة الله ورسوله والضرب عليه بالجذام والإفلاس وبعض هذه دليل على الكبيرة.
وكذلك ابن قدامة الحنبلى (?) ينص على تحريم الاحتكار ويستدل بعدة أحاديث منها قوله - صلى الله عليه وسلم-: "من احتكر فهو خاطىء ".
ووافقهم ابن حزم الظاهرى فيما نقلناه من العبارة السابقة إذ يقول (?) : إن الحكرة المضرة بالناس حرام.
وكذلك بالنسبة للزيدية خط فإن صاحب البحر الزخار ينص (?) : على أنه يحرم احتكار قوت الآدمى والبهيمة فى الفاصل عن كفايته ومن يمونه.
وكذلك الإباضية فقد صرحوا (?) : بأن الاحتكار حرام. وقال صاحب شرح النيل: أن النهى عن الاحتكار أشد من غيره من البيوع الممنوعة لانتظار المحتكر اللعنة بالاحتكار لحديث: " المحتكر ينتظر اللعنة".
وأما القائلون بالكراهة فمن الأحناف الميرغينانى صاحب الهداية وكل من الموصلى صاحب الاختيار والتمرتاشى صاحب تنوير الأبصار والحصكفى فى الدر وابن عابدين فى حاشيته وهو المذكور في ملتقى الأبحر وشارحه. يقول صاحب الهداية (?) : " ويكره الاحتكار فى أقوات الآدميين والبهائم.. الخ ".
كما يقول صاحب التنوير وشارحه صاحب الدر وابن عابدين فى حاشيته (?) . " وكره احتكار قوت البشر 00 الخ ". ويوافق الشيعة الجعفرية من قالوا بالكراهة من الأحناف، فقد أورده صاحب اللمعة الدمشقية وشارحه صاحب الروضة البهية فى مكروهات التجارة (?) .
وإن كان صاحب الروضة البهية قد اختار فى موضع آخر (?) أنه يحرم مع حاجة الناس إليه إذ يقول: والأقوى تحريمه مع حاجة الناس إليه لصحة الخبر بالنهى عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم كما أورده صاحب المختصر النافع من الشيعة الجعفرية فى المكروهات أيضا وذكر أن هناك قولا بحرمته. واما من أورد عبارة المنع دون تحديد لجهة المنع فإنه الحطَّاب من المالكية إذ أورد أنه ممنوع (?) .
حكم الاحتكار الدنيوى
يقول صاحب البدائع الفقيه الحنفى:
إن من أحكام الاحتكار أن يؤمر المحتكر بالبيع إزالة للظلم لكن إنما يؤمر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله، فإن لم يفعل وأصر على الاحتكار ورفع إلى الإمام مرة أخرى وهو مصر عليه فإن الإمام يعظه ويهدده، فإن لم يفعل ورفع إليه مرة ثالثة يحبسه ويعزره زجرا له عن سوء صنعه ولا يجبر على البيع.
وقال محمد: يجبر عليه، وهذا يرجع إلى مسألة الحجر على الحر لأن الجبر على البيع فى معنى الحجر.
ويقول الميرغينانى الحنفى فى كتابه الهداية: إن رفع المحتكر إلى الإمام مرة ثانية حبسه وعزره زجرا له ودق الضرر العامة.
أما صاحب "الدر الحنفى " فيمرح بأنه يجب على القاضى أن يأمره ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله.
ويضيفه ابن عابدين: أنه مع أمره ينهاه عن الاحتكار ويعظه ويزجره.
ثم يقول صاحب الدر: فإن لم يبع بل خالف الأمر عزره وباع عليه وفاقا على الصحيح.
ثم نقل عن صاحب السراج أنه لو خاف الإمام علي أهل بلد الهلاك أخذ الطعام من المحتكرين وقومه فإذا كانوا فى سعة ردوا مثله. قال: وليس هذا بحجر بل للضرورة، ومثله فى الاختيار والبدائع.
مذهب المالكية:
ونص المالكية على أن من اشترى الطعام من الأسواق واحتكره وأضر بالناس فإن الناس يشتركون فيه بالثمن الذى اشتراه وصرح ابن جزى بأن فى جبر الناس على إخراج الطعام فى الغلاء خلافا (?) .
ويقول الأبى المالكى فى شرح لصحيح مسلم (?) : إن الخليفة كان إذا غلا السعر ترفق بالمسلمين فأمر بفتح مخازنه وأن يباع بأقل مما يبيع الناس حتى يرجع الناس عن غلوهم فى الأثمان، ثم يأمر مرة أخرى أن يباع بأقل من ذلك حتى يرجع السعر إلى أوله أو القدر الذى يصلح للناس حتى يغلب الجالبين والمحتكرين بهذا الفعل وكان ذلك من حسن نظره.
مذهب الشافعية:
وصرح الشافعية بأن من عنده زائد على كفايته ومئونته سنة يجبر على بيعه فى زمن الضرورة، بل قالوا: أنه إذا اشتدت الضرورة يجبر على بيع ما عنده ولو لم يبق له كفاية سنة.
مذهب الحنابلة:
كما صرح الحنابلة بأن لولى الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه الناس فى مخمصة فإن من اضطر إلى طعام غيره أخذه منه بغير اختياره بقيمة المثل ولو امتنع عن بيعه إِلا بأكثر من سعره أخذه منه بقيمة المثل.
ثم يقول ابن القيم (?) : من أقبح الظلم أن يلزم الناس إلا يبيعوا الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون، فلا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم يبيعونها هم بما يريدون، فلو باع غيرهم ذلك منعوه، وهذا يمكن تسميه احتكار الصنف ".
ثم قال: إن هذا من البغى والفساد، فيجب التسعير عليهم، ومن هنا ذهب كثير من الفقهاء إلى القول بأن من حق الإمام، بل من واجبه أن يسعر السلع وأن منع الناس أن يبيعوا إلا بقيمة المثل ولا يشتروا إلا بها بلا تردد فى ذلك عند أحد من العلماء (انظر: تسعير) .
مذهب الظاهرية:
يقول ابن حزم الظاهرى: يمنع المحتكر من الاحتكار، وروى بسنده إلى على أنه أحرق طعاما أحتكر بمائة ألف، كما روى عن عبد الرحمن بن قيس قال: أحرق لى على بن أبى طالب بيادر بالسواد كنت احتكرتها، لو تركها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة. والبيدر: الموضع الذى تدرس فيه الحبوب، والمراد: ما فى تلك الأماكن من الحبوب.
مذهب الزيدية:
وصرح الزيدية بأن المحتكر يجبر على بيع ما احتكره ولا يباع عنه إلا إذا تمرد فيبيعه الحاكم ويعزره لعصيانه.
مذهب الإمامية:
أما، الشيعة الجعفرية فيقولون: يجب بيع الطعام المحتكر.
ويقول صاحب "اللمعة الدمشقية" (?) : أن الطعام المحتكر لو لم يوجد غيره وجب البيع ويسعر أن أجحف فى الثمن.
مذهب الإباضية:
وينص الاباضية على أنه لا يترك المحتكر يبيع بأكثر مما اشترى وإنما يجبر على البيع كما اشترى، وقيل إن أخذ منه حين الفراغ من العقد قبل الانتظار أجبر على البيع ولو بربح، وان قبض عليه بعد الانتظار أجبر أن يبيع بمثل ما اشترى وقد يمنع من الربح مطلقا لسوء نيته.
وروى عن جابر أن من أحتكر طعاما على الناس وأبى أن يبيع إلا على حكمه وهو غال ينزع منه.
ثم قال صاحب النيل (?) : ولا يجبر المحتكر على البيع إن خرج من ملكه بوجه أورده لنفقته أو تغير عن حاله مثل أن يكون حبا فيطحنه أو دقيقا فيخبزه.
ثم قال: وإن مات المحتكر لم يجبر وارثه ولا يجبر من دخله ملكه بوجه.