إجماع (أ)

معنى الإجماع فى اللغة

جاء فى لسان العرب: " جمع الشىء عن تفرقة، يجمعه جمعا، وجمعه، وأجمعه، فاجتمع. والمجموع الذى جمع من ههنا وههنا وأن لم يجعل كالشىء الواحد.

والجمع أيضا: المجتمعون، ومثله الجميع.

ويقال: جمع أمره، وأجمعه، وأجمع عليه، أى عزم عليه كأنه يجمع نفسه له. ويقال أيضا: أجمع أمرك ولا تدعه منتشرا.

ومنه قوله تعالى " فأجمعوا أمركم " (?) .

وقولهم: " أجمع أمره ": معناه: جعله جميعا بعد ما كان متفرقا، وتفرقه أنه جعل يديره، فيقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا، فلما عزم على أمر محكم أجمعه، أى جعله جميعا.

وفى الحديث: " من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له ".

ولم يجىء فى لسان العرب: أجمع القوم على كذا: بمعنى اتفقوا، وكذلك لم يجىء هذا المعنى فى أساس البلاغة ولا فى مختار الصحاح، ولكن صرح به فى كل من القاموس والمصباح والمفردات فى غريب القرآن.

قال فى القاموس: والإجماع الاتفاق، وجعل الأمر جميعا بعد تفرقه، والعزم على الأمر، أجمعت الأمر وعليه.

وقال فى المصباح: وأجمعت المسير والأمر، وأجمعت عليه، يتعدى بنفسه وبالحرف عزمت عليه وفى حديث " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له "، أى من لم يعزم عليه فينويه، وأجمعوا على الأمر: اتفقوا عليه ".

وقال فى مفردات القرآن: " وأجمعت كذا: أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكرة نحو

" فأجمعوا أمركم وشركاءكم " ونحو " فأجمعوا كيدكم ".

ويقال: " أجمع المسلمون علن كذا: اجتمعت آراؤهم عليه " ويؤخذ من هذا أن الإجماع فى اللغة يطلق تارة بمعنى العزم وتارة بمعنى الاتفاق (?) ، فهو لفظ مشترك، وبذلك جزم الغزالى فى المستصفى وهو ينقل المعنى اللغوى للفظ الإجماع (?) .

لكن قال ابن برهان، وابن السمعانى: "الأول، أى العزم، أشبه باللغة. والثانى، أى الاتفاق أشبه بالشرع " (?) .

وكأنهما يترددان فى أن الاتفاق معنى لغوى أصيل كالعزم، ولا محل لهذا بعد مجيئه فى كتب اللغة التى ذكرناها، على أن بعض اللغويين يعكس فيجعل المعنى اللغوى الأصيل للإجماع هو الاتفاق لأنه من أجمع إذا انضم إليه غيره فصار ذا جمع كما يقال أتمر أى صار ذا تمر، وألبن أى صار ذا لبن، وأبقل المكان أى صار ذا بقل.

نقله الإسنوى فى شرحه عن أبى على الفارسى فى الإيضاح، وذكره الرازى ثم قال: والأظهر من جهة اللغة أن المراد الاتفاق على أمر من الأمور، وجزم به الجلال فى شرحه على الفصول،، إذ قال هو من الاجتماع بمعنى التوافق لا غير (?) .

وفى شرح مسلم الثبوت عند الكلام على المعنى اللغوى: " أن الإجماع لغة العزم والاتفاق، وكلاهما من الجمع، فإن العزم فيه جمع الخواطر، والاتفاق فيه جمع الآراء " (?) .

معنى الإجماع فى الاصطلاح

الإجماع إما مطلق، وإما مضاف: فالمطلق: هو ما يذكر فيه لفظ الإجماع دون إضافة إلى فريق معين، بأن يذكر مقطوعا عن الإضافة، كما يقال ثبتت الزكاة بالكتاب والسنة والإجماع، أو يذكر مضافا إلى الأمة، أو المسلمين، أو العلماء، أو نحو ذلك مما يفيد عمومه وعدم اختصاصه بفريق دون فريق.

كما يقال: إجماع الأمة منعقد على وجوب الصلوات الخمس على كل مكلف، وإجماع المسلمين قائم على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

والمضاف: هو الذى يذكر فيه اللفظ منسوبا إلى فريق خاص، كما يقال إجماع أهل المدينة، وإجماع عترة الرسول صلى لله عليه وسلم، وإجماع أهل الحرمين، وإجماع الشيخين، وإجماع الخلفاء الراشدين ونحو ذلك. والتعاريف التى يذكرها جمهور علماء المذاهب الأربعة السنية المعروفة ومذهب الإباضية، إنما هى للإجماع بالمعنى المطلق.

أما غير هذه المذاهب الخمسة فلهم اصطلاحات فى الإجماع تختلف عن ذلك اختلافا بعيدا، أو قريبا وهذا هو تفصيل القول بعد إجماله.

معنى الإجماع فى مذاهب السنة

والمذهب الإباضى

عرفه الغزالى فى المستصفى بقوله: "هو اتفاق أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة على أمر من الأمور الدينية " (?) .

وهذا التعريف يجعل المجمعين هم الأمة كلها، ويجعل المجمع عليه هو ما كان من الأمور الدينية خاصة، ولذلك اعترض عليه الآمدى فى الأحكام باعتراضين:

أحدهما: أنه يشعر بعدم انعقاد الإجماع إلى يوم القيامة، فإن أمة محمد هم جملة من اتبعه إلى يوم القيامة، ومن وجد فى بعض الإعصار منهم إنما هم بعض الأمة لا كلها، وليس ذلك- أى كون المجمعين هم جميع الأمة إلى يوم القيامة- مذهبا للغزالى ولا لأى أحد ممن اعترف بوجود الإجماع.

الثانى: أنه يلزم من تقييده الإجماع بالاتفاق على أمر دينى ألا يكون إجماع الأمة على قضية عقلية أو عرفية حجة شرعية، وليس الأمر كذلك (?) .

ثم قال الآمدى: " والحق فى ذلك أن يقال: الإجماع عبارة عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع.

هذا إن قلنا أن العامى لا يعتبر فى الإجماع، وإلا فالواجب أن يقال: الإجماع عبارة عن اتفاق المكلفين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخر الحد المذكور.

فقولنا: " اتفاق " يعم الأقوال والأفعال والسكوت والتقرير.

وقولنا: " جملة أهل الحل والعقد " احتراز عن اتفاق بعضهم وعن اتفاق العامة وقولنا " من أمة محمد صلى الله عليه وسلم " احتراز عن اتفاق أهل الحل والعقد من أرباب الشرائع السابقة.

وقولنا " فى عصر من الأعصار " حتى يندرج فيه إجماع أهل كل عصر، وإلا أوهم ذلك أن الإجماع لا يتم الا باتفاق أهل الحل والعقد فى جميع الأعصار إلى يوم القيامة.

وقولنا " على حكم واقعة " ليعم الإثبات والنفى، والأحكام العقلية والشرعية " (?) .

وعرفه النسفى فى شرحه للمنار بقوله:" هو اتفاق علماء كل عصر من أهل العدالة والاجتهاد على حكم " (?)

وهو يعبر بأهل العدالة والاجتهاد بدل تعبير الغزالى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتعبير الآمدى بجملة أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد أطلق فيه المجمع عليه فقال " على حكم " ليعم الحكم الشرعى وغيره كما فعال الآمدى.

وعرفه عبد العزيز البخارى فى حاشيته على أصول البزدوى بقوله: " وهو اتفاق المجتهدين من هذه الأمة فى عصر على أمر من الأمور " (?) .

وهو شبيه بتعريفه النسفى السابق، غير أنه ذكر "اتفاق المجتهدين " بدل " أهل العدالة والاجتهاد ".

والقرافى يذكر أنه " اتفاق أهل الحل والعقد.. إلى آخره " (?) .

ومعروف أن القرافى مالكى المذهب، وأن إمامه ينسب إليه القول بأن إجماع أهل المدينة يكفى ولو خالفهم غيرهم، وسيأتى بيان ذلك وتخريج المالكية له.

ويعرفه موفق الدين ابن قدامة المقدسى الحنبلى فى " روضة الناظر " بقوله: "هو اتفاق علماء العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من أمور الدين " (?) .

وهو شبيه بتعريف الغزالى السابق فى جعله محل الإجماع هو الأمور الدينية، وفسره بعض الحنابلة بقوله: " أى على أمر يتعلق بالدين لذاته أصلا أو فرعا، وهو احتراز عن اتفاق علماء الأمة على أمر دنيوى، كالمصلحة فى إقامة متجر أو حرفة، أو على أمر دينى لكنه لا يتعلق بالدين لذاته، بل بواسطة، كاتفاقهم على بعض مسائل العربية أو اللغة أو الحساب ونحوه، فإن ذلك ليس إجماعا شرعيا أو اصطلاحيا (?)

ويعرفه الشيخ أبو محمد عبد الله بن حميد السالمى الإباضى فى شرحه المسمى بطلعة الشمس على ألفية الأصول، فيقول: " الإجماع فى عرف الأصوليين والفقهاء وعامة المسلمين هو اتفاق علماء الأمة على حكم فى عصر، وقيل: اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى عصر على أمر، وزاد بعضهم: ولم يسبقه خلاف مستمر فيخرج علي التعريف الأول عوام الأمة ممن لا علم له، فلا يقدح خلافهم فى انعقاد الإجماع، ويدخلون على التعريف الثانى فيعتبر وفاقهم فى انعقاد الإجماع " (?) .

وقيد " عدم سبق الخلاف المستمر "، موضع خلاف بين العلماء سنبينه إن شاء الله فى شروط الإجماع ودخول العوام فى المجمعين أو عدم دخولهم موضع خلاف أيضا، وسيأتى فى الكلام عمن هم أهل الإجماع.

وهناك قيد لابد منه خلت التعاريف السابقة من التقييد به، وتنبه إليه بعض المؤلفين، ومنهم الشوكانى فى إرشاد الفحول، فقد قال فى تعريفه: " هو اتفاق مجتهدى أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته فى عصر من العصور على أمر من الأمور ".

فزاد قوله " بعد وفاته " وقال: إنه خرج به الإجماع فى عصره - صلى الله عليه وآله وسلم-، فإنه لا اعتبار به (?) .

وهناك زيادات أخرى يذكرها بعضهم فى تعريف الإجماع، حسب قوله بشرط معين، كالذى يشترط فى حجية الإجماع انقراض عصر المجتهدين المتفقين على ذلك الأمر، فيزيد قيد الانقراض، وكالذى يشترط بلوغ المتفقين حد التواتر فيزيد فى التعريف ما يفيد ذلك.

وقد بين شارح مسلم الثبوت أن التعريف غير محتاج إلى التقييد بكل هذه القيود، فإن منها ما هو شرط للحجية لا دخل له فى الحد (?) .

هذه هى آراء جمهور العلماء فى مذاهب السنة الأربعة، ومذهب الإباضية فى تعريف الإجماع اصطلاحا: وإليك أقوال غيرهم:

مذهب الظاهرية فى معنى الإجماع:

يرى الظاهرية أن الإجماع " هو اتفاق الأمة خاصها وعامها على ما علم من الدين بالضرورة، أو اتفاق الصحابة خاصة فيما وراء ذلك".

ويؤخذ هذا من كلام ابن حزم فى كتابه الأحكام، إذ يقول: " أن الإجماع الذى هو الإجماع المتيقن ولا إجماع غيره لا يصح تفسيره ولا ادعاؤه بالدعوى، لكن ينقسم قسمين:

أحدهما: كل ما لا يشك فيه أحد من أهل الإسلام فى أن من لم يقل به فليس مسلما، كشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وكوجوب الصلوات الخمس، وكصوم شهر رمضان وكتحريم الميتة والدم والخنزير، والإقرار بالقرآن، وجملة الزكاة، فهذه أمور من بلغته فلم يقر بها فليس مسلما، فإذ ذلك كذلك، فكل من قال بها فهو مسلم، فقد صح أنها إجماع من جميع أهل الإسلام.

والقسم الثانى: شىء شهد هـ جميع الصحابة رضى الله عنهم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تيقن أنه عرفه كل من غاب عنه عليه السلام منهم، كفعله فى خيبر، إذ أعطاها يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر، يخرجهم المسلمون إذا شاءوا، فهذا لا شك عند كل أحد فى أنه لم يبق مسلم فى المدينة إلا شهد الأمر أو وصل إليه.

عرف ذلك الجماعة من النساء والصبيان والضعفاء، ولم يبق بمكة والبلاد النائية مسلم إلا عرفه

وسر به (?) .

ويتبين من هذا أن الظاهرية لا يعتبرون اتفاق غير الصحابة فيما وراء أصول الدين المعلومة بالضرورة إجماعا، وهذا أقرب إلى أن يكون بحثا فى الحجية لا بحثا فى مفهوم الإجماع، وسيأتى الكلام فى ذلك إن شاء الله تعالى.

مذهب الزيدية فى معنى الإجماع:

يختلف الزيدية عن الإمامية فى تعريف الإجماع، إذ يرون أنه اتفاق المجتهدين على أحد وجهين:

الوجه الأول: " اتفاق المجتهدين من أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فى عصر على أمر"، وهذا شامل للعترة وغيرهم.

الوجه الثانى: " اتفاق المجتهدين من عترة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعده فى عصر على أمر "، والمراد بعترة الرسول على وفاطمة والحسنان فى عصرهم، ومن كان منتسبا إلى الحسنين فى كل عصر من قبل الآباء، فلو قام إجماع العترة على أمر وخالفهم غيرهم فلا يعتبر خلافهم ناقضا للإجماع.

وقولهم " من قبل الآباء" يخرج به من كان من قبل الإناث كأولاد سكينة بنت الحسين بن على فإنها تزوجت بمصعب بن الزبير فمن كان من جهتهما فلا يدخل (?) .

مذهب الإمامية فى معنى الإجماع:

إن الشيعة الإمامية يعرفون الإجماع بأنه " كل اتفاق يستكشف منه قول المعصوم سواء أكان اتفاق الجميع أو البعض، فلو خلا المائة من الفقهاء من قول المعصوم ما كان حجة ولو حصل فى اثنين كان قولهما حجة (?) .

وهذا يفيد أن الإجماع من حيث كونه إجماعا، ليست له قيمة عند الإمامية ما لم يكشف عن قول المعصوم فإذا كشف عن قوله فالحجة فى الحقيقة هو المنكشف، لا الكاشف، فيدخل حينئذ فى السنة، ولا يكون دليلا مستقلا فى مقابلها ومقابل الكتاب، ولذلك يقرر بعضهم أنه إنما عد بين الأدلة تكثيرا لها (?) .

مذهب النظام فى معنى الإجماع:

واستكمالا للمذاهب الأصولية فى تعريف الإجماع نورد تعريف النظام المعتزلى له، وهو يقول

" الإجماع عبارة عن كل قول قامت حجته وإن كان قول واحد " (?) .

وقد تعقب العلماء هذا التعريف بالإبطال.

فقال الغزالى: " وهو على خلاف اللغة والعرف، لكنه سواه على مذهبه، إذ لم ير الإجماع حجة، وتواتر إليه بالتسامع تحريم مخالفة الإجماع فقال " هو كل قول قامت حجته " (?) .

وقال الآمدى " إنه قصد بذلك الجمع بين إنكاره كون إجماع أهل الحل والعقد حجة، وبين موافقته لما اشتهر بين العلماء من تحريم مخالفة الإجماع والنزاع معه فى إطلاق اسم الإجماع على ذلك مع كونه مخالفا للوضع اللغوى والعرف الأصولى آيل إلى اللفظ " (?) .

وفى روضة الناظر لابن قدامة المقدسى الحنبلى مثل ذلك (?) .

أنواع الإجماع

الإجماع نوعان: أحدهما:

الإجماع القولى، وهو ما فيه اتفاق الأقوال أو تواطؤ الأفعال على شىء واحد وصورته أن ينطق كل واحد من المعتبرين فى الإجماع بأنه يجب كذا، أو يحرم كذا، أو يندب، أو يكره، أو يباح، أو أن يفعل كل واحد من المعتبرين فعلا يواطىء فى ذلك فعل صاحبه، نحو أن يصلوا على الجنازة بأربع تكبيرات لا يزيد بعضهم عليها، ولا ينقص أو يتفقوا على ترك شىء نحو أن يتركوا الأذان فى صلاة العيد أو نحو ذلك فيكون إجماعا على أنه غير واجب فيها.

النوع الثانى- الإجماع السكوتى، وصورته: أن يقول بعضهم قولا، أو يعمل عملا ويسكت الباقون بعد انتشار ذلك القول أو العمل فيهم ومع القدرة على إنكاره، فلا ينكروه بل يسكتون عليه، كما إذا قال بعضهم: صلاة الكسوف مشروعة، فانتشر هذا القول فيهم فلم ينكره أحد منهم، كان إجماعا على شرعيتها فلو قال مثلا: مفروضة، ولم ينكروه ثبت الإجماع على فرضيتها (?) .

ولكل من النوعين حكم يخالف حكم الآخر، وسيأتى ذلك إن شاء الله تعالى فى الكلام على حجية كل منهما والنزاع فى اعتبار السكوتى إجماعا.

والحنفية يصفون الإجماع القولى بالعزيمة، والسكوتى بالرخصة.

جاء فى المنار وشرحه، المسمى بنور الأنوار لملاجيون: " ركن الإجماع نوعان: عزيمة وهو التكلم بما يوجب الاتفاق أى اتفاق الكل على الحكم بأن يقولوا أجمعنا على هذا إن كان ذلك الشىء من باب القول، أو شروعهم فى الفعل إن كان من بابه، أى كان ذلك الشىء من باب الفعل، كما إذا شرع أهل الاجتهاد جميعا فى المضاربة أو المزارعة أو الشركة، كان ذلك إجماعا منهم على شرعيتها ورخصة وهو أن يتكلم أو يفعل البعض، دون البعض، أى يتفق بعضهم على قول أو فعل وسكت الباقون منهم ولا يردون عليهم بعد مضى مدة التأمل، وهى ثلاثة أيام، أو مجلس العلم ويسمى هذا إجماعا سكوتيا" (?) .

وجاء فى حاشيته للعلامة اللكنوى تعليقا على قوله " عزيمة": أى أصل (?) .

والمراد أن التنصيص من كل واحد من المجمعين هو الأصل ولكن لما كان اشتراطه لانعقاد الإجماع يؤدى إلى ألا ينعقد أبدا لتعذر اجتماع أهل العصر على قول يسمع منهم، والمتعذر معفو عنه، والمعتاد فى كل عصر أن يتولى الكبار الفتوى ويسلم سائرهم، لما كان الأمر كذلك كان الانتقال من التنصيص من كل واحد، الذى هو الأصل، إلى الإجماع السكوتى الذى يتحقق بقول البعض وسكوت الباقين رخصة تقابل الأصل والعزيمة (?) .

هذا تعريف النوعين، وسيأتى الكلام على حكم كل منهما من حيث الحجية.

الخلاف فى إمكان وقوع الإجماع، وفى إمكان العلم به، وفى إمكان نقله، وفى حجيته:

اختلف العلماء فى إمكان وقوع الإجماع على غير ما علم من الدين بالضرورة، وعلى تقدير إمكان وقوعه، اختلفوا فى إمكان العلم به، وعلى تقدير الإمكان فى هذا وذاك، اختلفوا فى إمكان نقل الإجماع إلى من يحتج به من بعد المجمعين.

وعلى تقدير إمكان ذلك كله، اختلفوا فى حجيته، فالمقامات أربعة:

المقام الأول: إمكانه فى نفسه.

المقام الثانى: إمكان العلم به.

المقام الثالث: إمكان نقله إلى من يحتج به.

المقام الرابع: حجيته (?) .

وهذا بيان الخلاف فى كل واحد من هذه المقامات.

المقام الأول: إمكان الإجماع

إن جمهور العلماء فى مذاهب السنة الأربعة، ومذهب الزيدية ومذهب الإباضية يقولون بإمكان وقوع الإجماع من أهل الحل والعقد على أمر من الأمور، وإن ذلك متصور لا استحالة فيه. وقد خالف فى ذلك النظام، وبعض الشيعة والخوارج وعدد من علماء مذاهب السنة وغيرهم (?) .

وكلام القاضى البيضاوى فى المنهاج يقتضى أن النظام يسلم إمكان الإجماع، وإنما يخالف فى حجيته، وهو تابع للإمام الرازى فى ذلك، والمذكور فى الأوسط لابن برهان ومختصر ابن الحاجب وغيرهما أن النظام يقول باستحالته.

وقال ابن السبكى: إن بعض أصحاب النظام يقولون باستحالة الاجتماع، أما هو فيقول إنه يتصور لكن لا حجة فيه (?) .

والذين يقولون بإمكان الإجماع يستدلون على ذلك بأنه قد وقع فعلا، فإن الأمة مجمعة على وجوب الصلوات الخمس وسائر أركان الإسلام، والوقوع الفعلى يدل على الإمكان، وكيف يمنع تصوره والأمة كلها متبعة باتباع النصوص والأدلة القاطعة ومعرضون للعقاب بمخالفتها، فكما لا يمتنع اجتماعهم على الأكل والشرب لتوافق الدواعى فكذلك على اتباع الحق، واتقاء النار (?) .

والذين يقولون بعدم إمكان الإجماع يقولون:

أولا: لا نخالف فى اتفاق الأمة على ما علم من الدين بالضرورة كوجوب الصلوات الخمس وسائر أركان الإسلام، ولكن ثبوت هذه وأشباهها إنما هو بالتواتر لا بالإجماع وأجيب عن ذلك بأن التواتر هو مستند الإجماع، فلما ثبتت بالتواتر أجمع المسلمون عليها، أو أنها ثبتت بالإجماع فتواترت وكيفما كان فالإجماع فيها ثابت، وبه يحصل المقصود وهو إمكان الإجماع بدليل وقوعه (?) .

ثانيا: إن اتفاق الأمة أو جميع المجتهدين، أو جميع أهل الحل والعقد على حكم غير معلوم من الدين بالضرورة محال، كاتفاقهم فى الساعة الواحدة على المأكول الواحد، كالزبيب مثلا أو على التكلم بالكلمة الواحدة، فإن الاتفاق على هذا أو ذاك محال عادة.

وأجيب بأن هناك فرقا، هو أنه لا صارف لجميعهم على تناول الزبيب مثلا فى يوم واحد ولجميعهم باعث على الاعتراف بالحق (?) .

وأجيب أيضا بأن الاتفاق إنما يمتنع عادة فيما يستوى فيه الاحتمال، كالمأكول المعين، والكلمة الواحدة، أما عند الرجحان بقيام الدلالة أو الإمارة الظاهرة، فذلك غير ممتنع، كاتفاق الجمع العظيم على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم (?) .

ثالثا: إن اتفاقهم فرع تساويهم فى نقل الحكم إليهم، وانتشارهم فى الأقطار يمنع نقل الحكم إليهم.

وأجيب عن هذا بأنه " لا يمتنع نقل الحكم إلى المتفرقين فى الآفاق مع جدهم فى الطلب، وبحثهم عن الأدلة، وإنما يمتنع ذلك على من قعد فى قعر بيته لا يبحث ولا يطلب" (?) .

" والمجتهدون عدد قليل، ولهم اجتهادهم فى البحث عن الأحكام فلا يلزم مع ذلك امتناع اطلاع كل واحد منهم على ذلك الحكم " (?) .

رابعا: إن الاتفاق إما أن يكون عن دليل قاطع أو عن دليل ظنى، وكلاهما باطل، أما القاطع فلأن العادة تحيل عدم نقله إلينا، فلو كان لنقل، فلما لم ينقل علم أنه لم يوجد، ولو أنه نقل، لأغنى عن الإجماع، وأما الظنى فلأنه يمتنع الاتفاق عادة فى الأدلة الظنية، لاختلاف الأفهام وتباين

الأنظار" (?) .

وأجيب:" بعدم تسليم ما ذكر بالنسبة للدليل القاطع، إذ قد يستغنى عن نقله بحصول الإجماع الذى هو أقوى منه، وأما الظنى فقد يكون جليا لا تختلف فيه الأفهام، ولا تتباين فيه الأنظار، (?)

" وقد تصور إطباق اليهود على الباطل، فكيف لا يتصور إطباق المسلمين على الحق " (?)

" وليس بممتنع مع الدليل الظنى اتفاق الجمع الكبير على حكمه، بدليل اتفاق أهل الشبه على أحكامها، مع الأدلة القاطعة على مناقضتها، اتفاق اليهود والنصارى على إنكار بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، واتفاق الفلاسفة على قدم العالم، والمجوس على التثنية، أى القول بالهين، مع كثرة عددهم كثرة لا تحصى، فالاتفاق على الدليل الظنى الخالى عن معارضة القاطع أولى ألا يمتنع عادة " (?) .

المقام الثانى: إمكان العلم بالإحماع

اختلف العلماء فى هذا أيضا، فأثبته بعضهم، ونفاه بعضهم، قال الآمدى فى الأحكام: " المتفقون على تصور انعقاد الإجماع اختلفوا فى إمكان معرفته والاطلاع عليه، فأثبته الأكثرون أيضا، ونفاه الأقلون، ومنهم أحمد بن حنبل فى إحدى الروايتين عنه، ولذا نقل عنه أنه قال: " من ادعى الإجماع فهو كاذب " (?) .

وأوضح المؤلفين بيانا لوجهة نظر النفاة، وجمعا لأدلتها، هو القاضى الشوكانى فى كتابه

" إرشاد الفحول" ويبدو من كلامه أنه مقتنع بهذا الرأى، معتقد أنه الحق، وهذا هو نص كلامه مع قليل من التصرف للتوضيح:

"على تقدير تسليم إمكان الإجماع فى نفسه، يمنع بعض العلماء إمكان العلم به فيقولون لا طريق لنا إلى العلم بحصوله لأن العلم بالأشياء إما أن يكون وجدانيا، أو لا يكون وجدانيا، أما الوجدانى فكما يجد أحدنا من نفسه جوعه وعطشه، ولذته وألمه، ولا شك أن العلم باتفاق أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليس من هذا الباب، وأما الذى لا يكون وجدانيا فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفته لا مجال للعقل فيها، إذ كون الشخص الفلانى قال بهذا القول أو لم يقل به ليس من حكم العقل بالاتفاق ولا مجال أيضا للحس فيها، لأن الإحساس بكلام الغير لا يكون إلا بعد معرفته، فإذن العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد منهم، وذلك متعذر قطعا، ومن ذلك الذى يعرف جميع المجتهدين من الأمة فى الشرق والغرب، وسائر البلاد الإسلامية، فإن العمر يفنى دون مجرد البلوغ إلى كل مكان من الأمكنة التى يسكنها أهل العلم فضلا عن اختبار أحوالهم ومعرفة من أهم أهل الإجماع منهم، ومن ليس من أهله، ومعرفة كونه قال بذلك أو لم يقل به، والبحث عمن هو خامل من أهل الاجتهاد بحيث لا يخفى على الباحث فرد من أفرادهم، فإن ذلك قد يخفى على الباحث فى المدينة الواحدة، فضلا عن الإقليم الواحد، فضلا عن جميع الأقاليم التى فيها أهل الإسلام.

ومن أنصف من نفسه علم أنه لا علم عند علماء الشرق يحمله علماء الغرب وعكسه، فضلا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل، وبكيفية مذهبه، وبما يقول فى تلك المسألة بعينها، وأيضا قد يحمل بعض من يعتبر فى الإجماع على الموافقة وعدم الظهور بالخلاف التقية والخوف على نفسه كما أن ذلك معلوم فى كل طائفة من طوائف الإسلام، فانهم قد يعتقدون شيئا إذا خالفهم فيه مخالف خشى على نفسه من مضرتهم.

وعلى تقدير إمكان معرفة ما عند كل واحد من أهل بلد وإجماعهم على أمر، فيمكن أن يرجعوا عنه، أو يرجع بعضهم قبل أن يجمع أهل بلدة أخرى، بل لو فرضنا حتما اجتماع العالم بأسرهم فى موضع واحد، ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة قائلين قد اتفقنا على الحكم الفلانى، فإن هذا مع امتناعه لا يفيد العلم بالإجماع، لاحتمال أن يكون بعضهم مخالفا فيه، وسكت تقية وخوفا على نفسه.

ومن ادعى أنه يتمكن الناقل للإجماع من معرفة كل من يعتبر فيه من علماء الدنيا فقد أسرف فى الدعوى وجازف فى القول لما قدمنا من تعذر ذلك تعذرا ظاهرا واضحا، ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال: من ادعى الإجماع فهو كاذب.

وجعل الأصفهانى الخلاف فى غير إجماع الصحابة وقال: الحق تعذر الاطلاع على الإجماع إلا إجماع الصحابة حيث كان المجمعون وهم العلماء منهم فى قلة، وأما الآن، وبعد انتشار الإسلام وكثرة فلا مطمع للعلم به.

قال: وهو اختيار أحمد مع قرب عهده من الصحابة وقوة حفظه وشدة اطلاعه على الأمور النقلية.

قال: والمنصف يعلم أنه لا خبر له عن الإجماع إلا ما يجده مكتوبا فى الكتب، ومن البين أنه لا يحصل الاطلاع عليه الا بالسماع منهم، أو بنقل أمل التواتر إلينا، ولا سبيل إلى ذلك إلا فى عصر الصحابة، وأما من بعدهم فلا (?) .

ويرد الغزالى فى المستصفى على الذين ينفون إمكان العلم بالإجماع فيقول: "قال قوم لو تصور إجماعهم فمن ذا الذى يطلع عليه مع تفرقهم فى الأقطار، فنقول: يتصور معرفة ذلك بمشافهتهم إن كانوا عددا يمكن لقاؤهم، وإن لم يكن عرف مذهب قوم بالمشافهة، ومذهب الآخرين بأخبار التواتر عنهم كما عرفنا أن مذهب جميع أصحاب الشافعى منع قتل المسلم بالذمى، وبطلان النكاح بلا ولى ومذهب جميع النصارى التثليث، ومذهب جميع المجوس التثنية.

فإن قيل: مذهب أصحاب الشافعى وأبى حنيفة مستند إلى قائل واحد وهو الشافعى وأبو حنيفة، وقول الواحد يمكن أن يعلم، وكذلك مذهب النصارى يستند إلى عيسى عليه السلام، أى فى غير التثليث ونحوه من الباطل.

أما قول جماعة لا ينحصرون فكيف يعلم. قلنا: وقول أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى أمور الدين يستند إلى ما فهموه من محمد صلى الله عليه وسلم وسمعوه منه ثم إذا انحصر أهل الحل والعقد فكما يمكن أن يعلم قول واحد أمكن أن يعلم قول الثانى إلى العشرة والعشرين، فإن قيل: لعل أحدا منهم فى أسر الكفار وبلاد الروم، قلنا: تجب مراجعته، ومذهب الأسير ينقل كمذهب غيره، وتمكن معرفته فمن شك فى موافقته للآخرين لم يكن متحققا للإجماع، فإن قيل: فلو عرف مذهبه ربما رجع عنه بعده، قلنا: لا أثر لرجوعه بعد انعقاد الإجماع، فإنه يكون محجوجا به، ولا يتصور رجوع جميعهم، إذ يصير أحد الإجماعين خطأ، وذلك ممتنع بدليل السمع، أى قوله صلى الله عليه وسلم:

" لا تجتمع أمتى على الخطأ "، ونحوه" (?) .

ويجمل الآمدى الرد عليهم بقوله:

" وطريق الرد عليهم أن يقال: جميع ما ذكرتموه باطل بالواقع، ودليل الوقوع ما علمناه علما لا مراء فيه من أن مذهب جميع الشافعية امتناع قتل المسلم بالذمى، وبطلان النكاح بلا ولى، وأن مذهب جميع الحنفية نقيض ذلك مع وجود جميع ما ذكروه من التشكيكات، والوقوع فى هذه الصور دليل الجواز العادى وزيادة " (?) .

المقام الثالث: إمكان نقل الإجماع

إلى من يحتج به من بعد المجمعين

واختلفوا أيضا فى إمكان ذلك، فمنهم من يقول بالإمكان ومنهم من ينفيه.

قال النافون للإمكان: لو سلمنا إمكان ثبوت الإجماع عند الناقلين له لكان نقله إلى من يحتج به من بعدهم مستحيلا، لأن طريق نقله إما التواتر أو الآحاد، والعادة تحيل النقل تواترا لبعد أن يشاهد أهل التواتر كل واحد من المجتهدين شرقا وغربا ويسمعوا ذلك منهم، ثم ينقلوه إلى عدد متواتر ممن بعدهم، ثم كذلك فى كل طبقة إلى أن يتصل به، وأما الآحاد فغير معمول به فى نقل الإجماع.

وأجيب بأن ذلك تشكيك فى ضرورى للقطع لإجماع أهل كل عصر على تقديم القاطع على المظنون وما ذلك إلا بثبوته عنهم وبنقله إلينا (?) .

وقول الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فهو كاذب، محمول على تكذيب المدعى بذلك فى انفراده بالاطلاع، فإن الإجماع أمر عظيم يبعد كل البعد أن يخفى على الكثير ويطلع عليه الواحد، أو محمول على حدوثه الآن، فإن كثرة العلماء والتفرق فى البلاد وكونهم غير معروفين، مريب فى نقل اتفاقهم، فإن أحمد رحمه الله قد احتج بالإجماع فى مواضع كثيرة، فلو لم ينقل إليه لما ساغ له الاحتجاج به (?) .

هذا وممن قال: بأن الوقوف على الإجماع متعذر إلا فى إجماع الصحابة: الإمام الرازى، والقاضى البيضاوى، وجمال الدين الإسنوى،من علماء الشافعية والحسين بن القاسم، صاحب غاية السول وهداية العقول فى أصول الزيدية والمنصور بالله، والإمام يحيى من الزيدية أيضا.

قال الإسنوى فى شرحه، على المنهاج للبيضاوى: " إن الوقوف على الإجماع لا يتعذر فى أيام الصحابة، رضوان الله عليهم، فإنهم كانوا قليلين محصورين ومجتمعين فى الحجاز، ومن خرج منهم بعد فتح البلاد كان معروفا فى موضعه، وهذا قد ذكره الإمام الرازى، فقال: "والإنصاف أنه لا طريق لنا إلى معرفته إلا فى زمان الصحابة وعلل بما قلناه، نعم لو فرضنا حصول الإجماع من غير الصحابة أى مع ما تبين من تعذر ذلك.

فالأصح عند الإمام والآمدى وغيرهما أنه يكون حجة، وقال أهل الظاهر: لا يحتج إلا بإجماع الصحابة، وهو رواية لأحمد (?) .

وسيأتى ذلك فى الكلام على الحجية.

وقال الحسين بن القاسم الزيدى: " إن الاحتمالات التى ذكروها، أى ذكرها القائلون بنفى إمكان العلم به وإمكان نقله إلى من يحتج به بعد المجمعين، هذه الاحتمالات منتفية فى أيام الصحابة، لأنهم كانوا قليلين محصورين مجتمعين فى الحجاز ومن خرج منهم بعد فتح البلاد كان معروفا فى موضعه ".

وعلق عليه الحسن بن يحيى فى الحاشية بقوله: " محصول هذا أنه ممكن من الصحابة لا من غيرهم وهذا قول المنصور بالله والإمام يحيى، وأحد قولى أحمد بن حنبل، كما حكاه فى

الفصول " (?) .

وقد ذكرنا فيما سبق أن الظاهرية لا يعتبرون الإجماع فى غير ما هو معلوم من الدين بالضرورة إلا إجماع الصحابة دون غيرهم من العصور، ومن أسباب قولهم بذلك امتناع العلم بإجماع غيرهم لسعة أقطار المسلمين وكثرة العدد وعدم إمكان ضبط أقوالهم.

فقد نقل الشوكانى عن ابن وهب قال: ذهب داود، وأصحابنا إلى أن الإجماع إنما هو إجماع الصحابة فقط وهو قول لا يجوز خلافه، لأن الإجماع إنما يكون عن توقيفه، والصحابة هم الذين شهدوا التوقيف، فإن قيل فما تقولون فى إجماع من بعدهم؟ قلنا: هذا لا يجوز لأمرين: أحدهما أن النبى صلى الله عليه وسلم أنبأ عن ذلك فقال: " لا تزال طائفة من أمتى على الحق ظاهرين "، أى وذلك دال علي بقاء الخلاف، وعدم انعقاد الإجماع بدليل أن هناك من هم على الحق، متغلبون وظاهرون، وفى مقابلتهم طبعا من هم على غير الحق.

والثانى: أن سعة أقطار الأرض وكثرة العدد لا تمكن من ضبط أقوالهم، ومن ادعى هذا لا يخفى على أحد كذبه " (?) .

وجاء فى الأحكام لابن حزم الظاهرى: قال أبو محمد: قال أبو سليمان وكثير من أصحابنا: " لا إجماع إلا إجماع الصحابة رضى الله عنهم، واحتج فى ذلك بأنهم شهدوا التوقيف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وقد صح أنه لا إجماع إلا عن توقيف، وأيضا فإنهم رضى الله عنهم كانوا جميع المؤمنين، لا مؤمن من الناس سواهم، ومن هذه صفته فإجماعهم هو إجماع المؤمنين وهو الإجماع المقطوع به وأما كل عصر بعدهم فإنما هم بعض المؤمنين لا كلهم وليس إجماع بعض المؤمنين إجماعا.

إنما الإجماع: إجماع جميعهم، وأيضا فإنهم كانوا عددا محصورا يمكن أن يحاط بهم، وتعرف أقوالهم، وليس من بعدهم كذلك ".

وقد علق ابن حزم على هذا الذى نقله عن أبى سليمان وكثير من الأصحاب، بما يدل على موافقته عليه إلا فى نقطة واحدة تحفظ فيها، فقال: " وأما قوله أن عدد الصحابة رضى الله عنهم كان محصورا ممكنا جمعه وممكنا ضبط أقوالهم، وليس كذلك من بعدهم، فإنما كان هذا إذ كانوا كلهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل تفرقهم فى البلاد وأما بعد تفرقهم فالحال فى تعذر حصر أقوالهم كالحال فيمن بعدهم سواء ولا فرق، هذا أمر يعرف بالمشاهدة والضرورة " (?) .

ويتبين من هذا أن ابن حزم يستبعد أيضا معرفة إجماع الصحابة بعد تفرقهم فى الأمصار.

المقام الرابع

حجية الإجماع

أولا بيان الخلا ف فى ذلك:

قال الآمدى: " أتفق أكثر المسلمين على أن الإجماع حجة شرعية يجب العمل به على كل مسلم خلافا للشيعة والخوارج والنظام من المعتزلة (?) .

وقال فى مسلم الثبوت وشرحه: "الإجماع حجة قطعا، ويفيد العلم الجازم عند الجميع من أهل القبلة ولا يعتد بشرذمة من الحمقى الخوارج والشيعة، لأنهم حادثون بعد الاتفاق، يشككون فى ضروريات الدين مثل السوفسطائية فى الضروريات العقلية " (?) .

وقال الإسنوى فى شرحه على المنهاج:

" ذهب الجمهور إلى أن الإجماع حجة يجب العمل به خلافا للنظام والشيعة والخوارج فإنه وإن نقل عنهم ما يقتضى الموافقة، لكنهم عند التحقيق مخالفون.

أما النظام فإنه لم يفسر الإجماع باتفاق المجتهدين، بل قال كما نقله عنه الآمدى إن الإجماع كل قول يحتج به.

وأما الشيعة، يريد الإمامية منهم، فإنهم يقولون: إن الإجماع حجة، لا لكونه إجماعا بل لاشتماله على قول الإمام المعصوم، وقوله بانفراده عندهم حجة.

وأما الخوارج فقالوا كما نقله القرافى فى الملخص: أن إجماع الصحابة حجة قبل حدوث الفرقة، أى الاختلاف، وهذا غير التفرق الذى ذكره ابن حزم وأراد به التفرق فى الأمصار، وأما بعدها فقالوا الحجة فى إجماع طائفتهم لا غير، لأن العبرة بقول المؤمنين، ولا مؤمن عندهم إلا من كان على مذهبهم " (?) وقال عبد الله بن حميد السالمى الإباضى: بعد أن ذكر الخلاف فيمن هم أهل الإجماع: "أعلم أن ثمرة الخلاف فى هذا المقام إنما هى فى كون الإجماع حجة على كل قول من هذه الأقوال عند القائل به، فمن يعتبر أهل الاجتهاد فقط، كان إجماع المجتهدين من الأمة حجة عنده، وافقهم غيرهم على ذلك أم خالفهم، ومن يعتبر المجتهدين الكاملين فى الإيمان دون الفسقة والمبتدعين كان إجماع المؤمنين الكاملين حجة معه وإن خالفهم أهل الأهواء، ومن يعتبر الفقهاء من أهل الفروع دون غيرهم كان إجماعهم حجة عندهم وإن خالفهم غيرهم فى ذلك.

وهكذا من يعتبر الأصوليين ومن اعتبر جميع الأمة لم يكن إجماع بعضها وإن كانوا مجتهدين حجة معه، وأهل هذه الأقوال لا يخطىء بعضهم بعضا، لأنه مقام اجتهاد.

وحجية الإجماع على كل قول من الأقوال المذكورة إنما هى حجة ظنية عند من أثبتها حجة هنالك فيلزم العمل بها دون العلم ولا يكون الإجماع حجة قطعية يحكم بتفسيق من خالفها إلا إذا اجتمعت الأمة عالمها وجاهلها ومؤمنها وفاسقها ومحقها ومبتدعها، فإذا اجتمعوا جميعا على حكم لم يسبقهم فيه خلاف وانقرضوا على ذلك من غير أن يرجع أحدهم عن ذلك الحكم، فهاهنا يكون الإجماع حجة قطعية، بإجماع جميع من اعتبر الإجماع، وذلك بعد كمال الشروط الآتى ذكرها، ومنها ألا يكون إجماعهم مخالفا للنص، وأن ينقل إجماعهم إلينا التواتر، إلى غير ذلك من الشروط المعتبرة، ودون هذا فالإجماع حجة ظنية، ويكفى اعتبار المجتهدين فى كون الإجماع حجة ظنية على حسب ما اخترناه " (?) .

ثانيا: الأدلة على حجيته:

استدل القائلون بحجيته بالكتاب، والسنة، والمعقول (?) : فهى مسالك ثلاثة فى الاستدلال، أما الإجماع فلا يمكن إثبات الإجماع به، لأنه استدلال على الشىء بنفسه (?) .

على أن منهم من قصر الاستدلال على الكتاب والسنة فقط، ولم ير أن يستدل بالمعنى المعقول على الحجية.

قالوا: لأن العدد الكثير وإن بعد فى العقل اجتماعهم على الكذب، فلا يبعد اجتماعهم على الخطأ كاجتماع الكفار على جحد النبوة (?) .

ونحن نذكر المسالك الثلاثة استيعابا للأدلة التى تمسكوا بها:

المسلك الأول: الاستدلال بالكتاب:

استدلوا من الكتاب الكريم بخمس آيات:

الآية الأولى: قوله تعالى: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " (?) .

وجه الدلالة: أن الله تعالى جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين فى الوعيد، حيث قال " نوله ما تولى، ونصله جهنم " فيلزم أن يكون اتباع غير سبيل المؤمنين محرما لأنه لو لم يكن حراما لما جمع بينه وبين المحرم الذى هو المشاقة فى الوعيد، فإنه لا يحسن الجمع بين حلال وحرام فى وعيد بأن نقول مثلا: إن زنيت وشربت الماء عاقبتك، وإذا حرم أتباع غير سبيل المؤمنين وجب اتباع سبيلهم لأنه لا مخرج عنهما، أى لا واسطة بينهما، ويلزم من وجوب اتباع سبيلهم كون الإجماع حجة، لأن سبيل الشخص هو ما يختاره من القول أو الفعل أو الاعتقاد " (?) وهذا الدليل قد تمسك به الشافعى فى الرسالة كما ذكره الإسنوى وغيره، وقد دارت فيه مناقشات كثيرة بين مثبتى حجية الإجماع ومنكريها تجدها مفصلة فى كتب الأصول كالأحكام للآمدى، ومسلم الثبوت وشرحه وإرشاد الفحول وغيرها، وحسبنا أن نذكر بعضها على سبيل المثال، فمن ذلك قول المنكرين للحجية: لا نسلم أن المراد بسبيل المؤمنين فى الآية هو إجماعهم، لاحتمال أن يكون المراد سبيلهم فى متابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو فى مناصرته، أو فى الاقتداء به، أو فيما به صاروا مؤمنين وهو الإيمان به، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال (?) .

ولمثل هذا الاعتراض قرر بعض العلماء القائلين بالحجية أن دلالة الآية محتملة، فالغزالى يقول:

" والذى نراه أن الآية ليست نصا فى الغرض، بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاققه ويتبع غير سبيل المؤمنين فى مشايعته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهى، وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم، فإن لم يكن ظاهرا فهو محتمل 0

ولو فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية بذلك لقبل " (?) .

والحسين بن القاسم الزيدى يقول: والاحتجاج المأخوذ من هذه الآية الكريمة ظنى، لأنه معترض عليه بوجوه، منها - وهو أقواها- جواز أن يريد سبيلهم فى مطاوعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وترك مشاقته، أوفى مناصرته، أو فى التأسى به فى الأعمال، أو فيما صاروا به مؤمنين وهو الإيمان بالله ورسوله، وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور، والتمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع، لأن غيره من أدلة التمسك لا يخلو عن قدح، فلو أثبتت حجية الإجماع به لزم الدور وإثبات الأصل الكلى بدليل ظنى لا يجوز (?) .

الآية الثانية قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) " (?) ، ووجه الاستدلال بها " أن الله تعالى عدل هذه الأمة، لأنه تعالى جعلهم وسطا والوسط من كل شىء أعدله، قال الله تعالى " قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون " (?) أى أعدلهم.

وقال الجوهرى: " الوسط من كل شىء أعدله، ومنه قوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا ". أى عدولا وقد علل الله تعالى جعلهم وسطا بأن يكونوا شهداء على الناس، والشاهد لابد أن يكون عدلا وهذا التعديل الحاصل للأمة وإن لزم منه تعديل كل فرد منها بالضرورة، لكون نفيه عن واحد يستلزم نفيه عن المجموع، لكنه ليس المراد تعديلهم فيما ينفرد به كل واحد منهم، لأنا نعلم بالضرورة خلافه، فتعين تعديلهم فيما يجتمعون عليه، وحينئذ فتجب عصمتهم عن الخطأ قولا وفعلا صغيرة وكبيرة، لأن الله تعالى، يعلم السر والعلانية، فلا يعد لهم مع ارتكابهم بعض المعاصى بخلافه تعديلنا فإنه قد لا يكون كذلك لعدم اطلاعنا على الباطن " (?) .

وقد دار فى هذه الآية نقاش كثير كالآية الأولى تراه مفصلا فى كتب الأصول، ومن ذلك ما ذكره الإسنوى فى شرحه على المنهاج إذ يقول " لقائل أن يقول أن الآية لا تدل على المدعى، لأن العدالة لا تنافى صدور الباطل غلطا ونسيانا، ولو سلمنا أن كل ما أجمعوا عليه حق، فلا يلزم المجتهد أن يفعل كل ما هو حق فى نفسه بدليل أن المجتهد لا يتبع مجتهدا آخر، وإن قلنا كل مجتهد

مصيب " (?) .

ويقول الشوكانى بعد أن أورد مناقشات الموافقين والمخالفين فى دلالة هذه الآية: " ولا يخفاك ما فى هذه الأجوبة من الضعف - يريد أجوبة المستدلين بالآية على ما أثير عليهم من اعتراضات- وعلى كل حال فليس فى الآية دلالة على محل النزاع أصلا، فإن ثبوت كون أهل الإجماع بمجموعهم عدولا لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية، فإن ذلك أمر إلى الشارع لا إلى غيره، وغاية ما فى الآية أن يكون قولهم مقبولا إذا أخبرونا عن شىء من الأشياء، وأما كون اتفاقهم على أمر دينى يصير دينا ثابتا عليهم وعلى من بعدهم إلى يوم القيامة فليس فى الآية ما يدل على هذا، ولا هى مسوقة لهذا المعنى ولا تقتضيه بمطابقة ولا تضمن ولا التزام " (?) .

يريد أنها لا تقتضيه بأى وجه من وجوه الدلالة الثلاثة المعروفة.

ولذلك أسقط الاستدلال بهذه الآية بعض المؤلفين مع شدة تمسكهم بالحجية كابن الحاجب فى مختصره، وابن قدامة الحنبلى فى روضة الناظر، وأوردها بعضهم معقبا بأن الاستدلال بها لا يفيد قطعا ولا ظنا قويا (?) ، وبعضهم معقبا أنها لا تفيد إلا ظنا (?) .

الآية الثالثة قوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن

المنكر " (?)

والاستدلال بها من حيث أنها جملة خبرية تصفهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والألف واللام فى المعروف والمنكر للعموم لأنها داخلة على اسم جنس، فهم إذن يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، فمن خالف فيما أمروا به أو نهوا عنه فقد خالف طريقتهم، فيكون مبطلا وضالا " فماذا بعد الحق إلا الضلال " (?) .

وأيضا: لو أجمعوا على الخطأ لكانوا آمرين بالمنكر وناهين عن المعروف، وهو خلاف المنصوص (?) .

وقد نوقش هذا الاستدلال كذلك بما لا نطيل بذكره، وفيه يقول الشوكانى: " ولا يخفاك أن الآية لا دلالة لها على محل النزاع لأن اتصافهم بكونهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية تصير دينا ثابتا على كل الأمة، بل المراد أنهم يأمرون بما هو معروف فى هذه الشريعة، وينهون عما هو منكر فيها.

فالدليل على كون ذلك الشىء معروفا أو منكرا هو الكتاب أو السنة، لا إجماعهم، غاية ما فى الباب أن إجماعهم يصير قرينة على أن فى الكتاب أو السنة ما يدل على ما أجمعوا عليه، وأما أنه دليل بنفسه فليس فى هذه الآية ما يدل على ذلك " (?) .

الآية الرابعة قوله تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " (?) .

" ووجه الاحتجاج بها أنه تعالى نهى عن التفرق، ومخالفة الإجماع تفرق، فكان منهيا عنه، ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى النهى عن مخالفته " (?) .

وقد أعقب الآمدى بيان الاحتجاج بذكر ما ورد عليه من المناقشات والإجابة عن كل منها (?) .

الآية الخامسة قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم، فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا" (?) .

ووجه الاحتجاج بالآية أنه شرط التنازع فى وجوب الرد إلى الكتاب والسنة، والمشروط ينعدم عند عدم الشرط. وذلك يدل على أنه إذا لم يوجد التنازع فالاتفاق على الحكم كاف عن الكتاب والسنة ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى هذا " (?) .

وقد عقب الآمدى بذكر ما نوقش به هذا الدليل أيضا، وما رد به على المناقشة.

وبهذا انتهى المسلك الأول وهو الاستدلال بالكتاب على حجية الإجماع.

وقد علق الآمدى على هذا المسلك بقوله " واعلم أن التمسك بهذه الآيات، وإن كانت مفيدة للظن فغير مفيدة للقطع، ومن زعم أن المسألة قطعية، فاحتجاجه فيها بأمر ظنى غير مفيد للمطلوب، وإنما يصح ذاك على رأى من يزعم أنها اجتهادية ظنية" (?) .

وعلق الغزالى على مسلك الاستدلال بالآيات أيضا بقوله: " فهذه كلها ظواهر لا تنص على الغرض بل لا تدل أيضا دلالة الظواهر " (?) .

المسلك الثانى: الاستدلال بالسنة: قال الغزالى فى المستصفى:

المسلك الثانى- وهو الأقوى- التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتى على الخطأ " وهذا من حيث اللفظ أقوى وأدل على المقصود، ولكن ليس بالمتواتر، كالكتاب، والكتاب متواتر لكن ليس بنص، فطريق تقرير الدليل أن نقول: تظاهرت الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى فى عصمة هذه الأمة من الخطأ، واشتهر على لسان المرموقين والثقات من الصحابة كعمر وابن مسعود وأبى سعيد الخدرى، وأنس بن مالك، وابن عمر، وأبى هريرة، وحذيفة بن اليمان، وغيرهم ممن يطول ذكره من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتى على الضلالة " و " لم يكن الله ليجمع أمتى على الضلالة " و " سألت الله تعالى ألا يجمع أمتى على الضلالة فأعطانيها " و " من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم " و " أن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد".

وقوله صلى الله عليه وسلم: " يد الله مع الجماعة، ولا يبالى الله بشذوذ من شذ " و " لا تزال طائفة من أمتى على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ".

وروى: " لا يضرهم خلاف من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء ".

و" من خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " و" من فارق الجماعة ومات، فميتته جاهلية " (?) .

وهذه الأخبار لم تزل ظاهرة فى الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا لم يدفعها أحد من أهل النقل من سلف الأمة وخلفها بل هى مقبولة من موافقى الأمة ومخالفيها، ولم تزل الأمة تحتج بها فى أصول الدين وفروعه، فإن قيل فما وجه الحجة ودعوى التواتر فى آحاد هذه الأخبار غير ممكن، ونقل الآحاد لا يفيد العلم؟

قلنا فى تقرير وجه الحجة طريقان:

أحدهما: أن ندعى العلم الضرورى بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عظم شأن هذه الأمة وأخبر عن عصمتها عن الخطأ بمجموع هذه الأخبار المتفرقة، وأن لم تتواتر آحادها، وبمثل ذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى العلم بشجاعة على، وسخاوة حاتم، وفقه الشافعى، وخطابة الحجاج، وميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة من نسائه، وتعظيمه صحابته وثنائه عليهم، وإن لم تكن آحاد الأخبار فيها متواترة، بل يجوز الكذب على كل واحد منها لو جردنا النظر إليه.

ولا يجوز على المجموع، وذلك يشبه ما يعلم من مجموع قرائن آحادها لا ينفك عن الاحتمال ولكن ينتفى الاحتمال عن مجموعها حتى يحصل العلم الضروى.

الطريق الثانى: ألا ندعى علم الاضطرار بل علم الاستدلال من وجهين:

الأول أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين، يتمسكون بها فى إثبات الإجماع ولا يظهر أحد فيها خلافا وإنكارا، إلى زمان النظام.

ويستحيل فى مستقر العادة توافق الأمم فى أعصار متكررة على التسليم بما لم تقم الحجة بصحته مع اختلاف الطباع وتفاوت الهمم والمذاهب فى الرد والقبول.

ولذلك لم ينفك حكم ثبت بأخبار الآحاد عن خلاف مخالف وإبداء تردد فيه.

الوجه الثانى: إن المحتجين بهذه الأخبار أثبتوا أنها أصلا مقطوعا به وهو الإجماع الذى يحكم به على كتاب الله تعالى، وعلى السنة المتواترة، ويستحيل فى العادة التسليم بخبر يرفع به الكتاب المقطوع به إلا إذا استند إلى مستند مقطوع به، فأما رفع المقطوع بما ليس بمقطوع فليس معلوما حتى لا يتعجب متعجب ولا يقول قائل: كيف ترفعون الكتاب القاطع بإجماع مستند إلى خبر غير معلوم الصحة، وكيف تذهل عنه جميع الأمة إلى زمان النظام، فتختص بالتنبه له (?) .

والذى قرره الغزالى من الاستدلال بالأحاديث المذكورة على عصمة الأمة من الخطأ، هو استدلال بالتواتر المعنوى فى هذه الأحاديث وإن لم تتواتر آحادها.

وقد استدل به صاحب مسلم الثبوت وشرحه، ثم ساق استبعاد الإمام الرازى لذلك مشفوعا بالرد عليه، وهذا هو نص كلامهما مع تصرف يسير للتوضيح:

" واستدل ثانيا بقوله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم: " لا تجتمع أمتى على الضلال "، فإنه يفيد عصمة الأمة عن الخطأ فإنه متواتر المعنى فإنه قد ورد، بألفاظ مختلفة يفيد كلها العصمة، وبلغت رواة تلك الألفاظ حد التواتر، وتلك الألفاظ نحو " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن "، ونحو " من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام "، ونحو " عليكم بالجماعة "، ونحو " الزموا الجماعة " ونحو " من فارق الجماعة مات ميتة الجاهلية "، ونحو " عليكم بالسواد الأعظم " ونحو " لا تجتمع أمتى علي الخطأ " وغير ذلك من الألفاظ التى يطول الكلام بذكرها، واستحسنه ابن الحاجب فإنه دليل لا خفاء فيه بوجه، ولا مساغ للارتياب فيه، واستبعد الإمام الرازى صاحب المحصول، كما هو دأبه من التشكيكات فى الأمور الظاهرة، التواتر المعنوى، سيما على حجيته- أى استبعد التواتر عامة، واستبعده على حجية الإجماع خاصة-- وقال لا نسلم بلوغ مجموع هذه الآحاد حد التواتر المعنوى، فإن الرواة العشرين أو الألف، لا تبلغ حد التواتر ولا تكفى للتواتر المعنوى فإنه ليس بمستبعد فى العرف إقدام عشرين على الكذب فى وقعة معينة، بعبارات مختلفة، ولو سلم فتواتره بالمعنى غير مسلم، فإن القدر المشترك هو أن الإجماع حجة، أو ما يلزم ذلك منه، وقد ادعيتم أن حجية الإجماع متواترة من رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم، ويلزم أن يكون كغزوة بدر، فإنه لو كان كذلك لم يقع الخلاف فيه، وإنكم بعد تصحيح المتن- أى ألفاظ الحديث ونصه- توردون على دلالته على حجية الإجماع، الأسئلة والأجوبة، ولو كان متواترا لأفاد العلم ولغت تلك الأسئلة والأجوبة، وإن ادعيتم أن هذه الأخبار تدل على عصمة الأمة وهى بعينها حجية الإجماع - وقرر الرازى هذه الاعتراضات بعبارات مطلية كما هو دأبه- وهذا الاستبعاد فى بعد بعيد فإن القدر المشترك المفهوم من هذه الأخبار قطعا هو عصمة الأمة عن الخطأ، ولا شك فيه، واجتماع عشرين من العدول الخيار، بل أزيد، على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، مما لا يتوهم.

وأما قوله: لو كان لكان كغزوة بدر، قلنا نعم إنه كغزوة بدر- كيف وقد عرفت سابقا أنه تواتر فى كل عصر من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم إلى الآن، أى إلى هذا الوقت- تخطئة المخالف للإجماع قطعا، وهل هذا إلا تواتر الحجية؟

وأيضا يجوز أن تكون المتواترات مختلفة بحسب قوم دون قوم، فهذا متواتر عند من طالع كثرة الوقائع والأخبار.

وما قال من أنه لو كان متواترا لما وقع الخلاف فيه، قلنا التواتر لا يوجب أن يكون الكل عالمين به، ألا ترى أن أكثر العوام لا يعلمون غزوة بدر أصلا بل التواتر إنما يكون متواترا عند من وصل إليه أخبار تلك الجماعة، وذلك بمطالعة الوقائع والأخبار، والمخالفون لم يطالعوا.

وأيضا الحق إن مخالفتهم كمخالفة السوفسطائية فى القضايا الضرورية الأولية، فكما أن مخالفتهم لا تضر كونها أولية، فكذا مخالفة المخالفين لا تضر التواتر، وأما إيراد الأسئلة والأجوبة فعلى بعض المتون - أى نصوص بعض الأحاديث لا على القدر المشترك المستفاد من الأخبار- فافهم ولا تزل فإنه مزلة " (?) .

المسلك الثالث: الاستدلال بالمعقول: قال الآمدى: " وأما المعقول فهو أن الخلق الكثير وهم أهل كل عصر إذا اتفقوا على حكم قضية وجزموا به جزما قاطعا، فالعادة تحيل على مثلهم الحكم الجزم بذلك والقطع به وليس له مستند قاطع بحيث لا يتنبه واحد منهم إلى الخطأ فى القطع بما ليس بقاطع، ولهذا وجدنا أهل كل عصر قاطعين بتخطئة مخالفى ما تقدم من إجماع من قبلهم، ولولا أن يكون ذلك عن دليل قاطع لاستحال فى العادة اتفاقهم على القطع بتخطئة المخالف، ولا يقف واحد منهم على وجه الحق فى ذلك " (?) .

وقد عبر صاحب مسلم الثبوت وشرحه عن هذا الدليل بقولهما:

لنا (أى يدل لنا على ما قلناه من حجية الإجماع) اتفاقهم فى كل عصر على القطع بتخطئة المخالف للإجماع من حيث هو إجماع، واتفاقهم على تقديمه على القاطع، وعدهم تفريق عصا الجماعة من المسلمين أمرا عظيما وإثما كبيرا والعادة تحيل اجتماع مثل هؤلاء من الأخيار الصالحين من الصحابة والتابعين المحققين على قطع فى حكم ما، لا سيما القطع بكون المخالفة أمرا عظيما، لاعن نص قاطع، بحيث لا يكون للارتياب فيه احتمال، فإنه قد علم بالتجربة والتكرار من أحوالهم وفتاويهم علما ضروريا أنهم ما كانوا يقطعون بشىء إلا ما كان كالشمس على نصف النهار (?) .

ويعلق الآمدى على هذا الاستدلال بالمعنى المعقول فيقول:

" ولقائل أن يقول: إن العادة لا تحيل الخطأ على الخلق الكثير بظنهم ما ليس قاطعا قاطعا ولهذا فإن اليهود والنصارى مع كثرتهم كثرة تخرج عن حد التواتر قد أجمعوا على تكذيب محمد عليه السلام وإنكار رسالته وليس ذلك إلا لخطئهم فى ظن ما ليس قاطعا قاطعا، وبالجملة، فإما أن يقال باستحالة الخطأ عليهم فيما ذهبوا إليه، أو لا يقال باستحالته، فإن كان الأول لزم ألا يكون محمد نبيا حقا بإجماعهم على تكذيبه، وإن كان الثانى- أى عدم استحالة الخطأ عليهم- فهو المطلوب " (?) .

وهذا الذى قاله الآمدى هو تلخيص لما ذكره الغزالى فإنه اعترض على هذه الطريقة قائلا: " وهذه الطريقة ضعيفة عندنا، لأن منشأ الخطأ إما تعمد الكذب وإما ظنهم ما ليس بقاطع قاطعا، والأول عير جائز على عدد التواتر، وأما الثانى فجائز، فقد قطع اليهود ببطلان نبوة عيسى ومحمد عليهما السلام، وهم أكثر من عدد التواتر، وهو قطع فى غير محل القطع، لكن ظنوا ما ليس بقاطع

قاطعا " (?) .

ثالثا: ما استدل به القائلون بعدم حجية الإجماع:

المنكرون للإجماع يسلكون فى الاستدلال على رأيهم مسلكين:

أولهما: معارضة أدلة الجمهور من الكتاب والسنة والمعانى المعقولة، بمثلها، فيأتون بآيات وأخبار ومعان معقولة تدل على بطلان حجية الإجماع.

ثانيهما: مناقشة ما استدل به الجمهور بإبطال دلالته على ما ذهبوا إليه من الحجية وبتأويل الآيات والأحاديث تأويلا آخر، ونحن نذكر أهم ما جاء به المنكرون لحجية الإجماع كما ذكرنا أهم ما جاء به المثبتون، وسنشفع كلا منها بما ورد عليه من المناقشة كما فعلنا أيضا حين ذكرنا أدلة المثبتين.

المسلك الأول: معارضة أدلة

الجمهور بمثلها

" قالوا: إن كتاب الله تعالى يدل على ما ذهبنا إليه، والله تعالى يقول " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء " (?) .

وذلك يدل على عدم الحاجة إلى الإجماع (?) فلا مرجع فى تبيان الأحكام إلا إلى الكتاب والإجماع غيره (?) .

وقد رد الآمدى على ذلك بأنه ليس فى بيان كون الإجماع حجة متبعة بالأدلة التى ذكرناها ما ينافى كون الكتاب تبيانا لكل شىء (?) .

ورد عليه العضد فى شرحه على مختصر ابن الحاجب بأن هذه الآية " لا تنافى كون غيره أيضا تبيانا ولا كون الكتاب تبيانا لبعض الأشياء بواسطة الإجماع " (?) .

واستدلوا أيضا بقوله تعالى: " فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول " (?) فلا مرجع عند التنازع إلا الى الكتاب والسنة (?) .

وقد رد اللآمدى بأن هذه الآية " دليل عليهم لأنها دليل على وجوب الرد إلى الله والرسول فى كل متنازع فيه، وكون الإجماع حجة متبعة مما وقع النزاع فيه، وقد رددناه إلى الله تعالى، حيث أثبتناه بالقرآن، وهم مخالفون فى ذلك " (?) .

ورد العضد بأن الآية " مختصة بما فيه النزاع والمجمع عليه ليس كذلك " (?) .

يريد أن لفظها يختص بما فيه النزاع، والمجمع عليه لا نزاع فيه فيمكن أن يدل المفهوم على أن المتفق عليه لا يحتاج فيه إلى الرجوع.

وقد صرح بإفادة الآية لذلك بمفهوم الكلام: شارح مسلم الثبوت (?) .

واستدلوا أيضا بمثل قوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " (?) .

" ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق " (?) " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " (?) .

قالوا:- هذه الآيات وأمثالها من كل ما فيه نهى للأمة عن القول الباطل، والفعل الباطل، تدل على تصور ذلك منهم، ومن يتصور منه المعصية لا يكون قوله ولا فعله موجبا للقطع.

ويرد الآمدى على ذلك فيقول: " لا نسلم أن النهى فى هذه الآيات راجع إلى اجتماع الأمة على ما نهوا عنه، بل هو راجع إلى كل واحد على انفراد، ولا يلزم من جواز المعصية على كل واحد جوازها على الجملة، أى على المجموع، سلمنا أن النهى لجملة الأمة عن الاجتماع على المعصية ولكن غاية ذلك جواز وقوعها منهم عقلا، ولا يلزم من الجواز الوقوع، ولهذا فإن النبى عليه السلام قد نهى عن أن يكون من الجاهلين بقوله تعالى: " فلا تكونن من الجاهلين " (?) .

وقال تعالى لنبيه: "لئن أشركت ليحبطن عملك " (?) ، إذ ورد ذلك فى معرض النهى مع العلم بكونه معصوما من ذلك، وأيضا فإنا نعلم أن كل أحد منهى عن الزنا وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق إلى غير ذلك من المعاصى، ومع ذلك فإن من مات ولم يصدر عنه بعض المعاصى، نعلم أن الله قد علم منه أنه لا يأتى بتلك المعصية فكان معصوما عنها ضرورة تعلق علم الله بأنه لا يأتى بها، ومع ذلك فهو منهى عنها " (?) .

وقالوا: وأما السنة فإن النبى عليه الصلاة والسلام أمر معاذا لما سأله عن الأدلة المعمول بها، على إهماله لذكر الإجماع، ولو كان الإجماع دليلا، لما ساغ ذلك مع الحاجة إليه.

وأيضا فإنه قد ورد عن النبى عليه الصلاة والسلام ما يدل على جواز خلو العصر عمن تقوم الحجة بقوله، فمن ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ ".

وأيضا قوله: " لا ترجعوا بعدى كفارا" نهى الكل عن الكفر وهو دليل جواز وقوعه منهم.

وقوله: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ".

وقوله: " تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما ينسى ".

وقوله عليه الصلاة والسلام: " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " (?)

وقوله: " خير القرون القرن الذى أنا فيه، ثم الذى يليه، ثم الذى يليه، ثم تبقى حثالة كحثالة التمر، لا يعبأ الله بهم " (?) .

ويرد الآمدى على ذلك فيقول:

"أما خبر معاذ فإنما لم ينكر فيه الإجماع لأنه ليس بحجة فى زمن النبى عليه الصلاة والسلام فلم يكن مؤخرا لبيانه مع الحاجة إليه.

وقوله -عليه الصلاة والسلام: " بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ "، لا يدل على أنه لا يبقى من تقوم الحجة بقوله، بل غايته أن أهل الإسلام هم الأقلون.

وقوله: " لا ترجعوا بعدى كفارا " فيحتمل أنه خطاب مع جماعة معينين وإن كان خطابا مع الكل فجوابه ما سبق فى آيات المناهى للأمة.

وقوله: " حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا ".. الحديث: غايته الدلالة على جواز انقراض العلماء، ونحن لا ننكر امتناع وجود الإجماع مع انقراض العلماء، وإنما الكلام فى اجتماع من كان من العلماء، وعلى هذا يكون الجواب عن باقى الأحاديث الدالة على خلو آخر الزمان من العلماء، كيف وأن ما ذكروه معارض بما يدل على امتناع خلو عصر من الأعصار عمن تقوم الحجة بقوله، وهو قوله- عليه الصلاة والسلام-: " لا تزال طائفة من أمتى على الحق- حتى يأتى أمر الله، وحتى يظهر الدجال " " وأيضا ما روى عنه أنه قال: " واشوقاه إلى إخوانى. قالوا: يا رسول الله، ألسنا إخوانك؟ فقال: أنتم أصحابى، إخوانى قوم يأتون من بعدى يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق ويصلحون إذا فسد الناس " (?) .

قالوا: وأما المعنى المعقول الذى يدل على عدم حجية الإجماع فى نظر القائلين بذلك، فيرجع:

أولا: إلى ما ذكروه من عدم إمكانه وعدم إمكان العلم به، وعدم إمكان نقله، وقد سبق بيان الرد على ذلك.

ثانيا: إلى اعتبارهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم كغيرها من الأمم فحيث لم يعتبر إجماع أهل الملل السابقة حجة، فلا يكون إجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم حجة (?) .

وجوابه كما ذكر الآمدى من وجهين: أحدهما: أن يقال من العلماء من اعتبر إجماع علماء من تقدم حجة قبل النسخ، فقد ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الأسفرايينى وغيره من أصحابنا- هكذا يقول الآمدى- وجماعة من العلماء، وإذن فلم يتم لهم الاستدلال لعدم حجية إجماع من سبقنا من الملل.

الوجه الثانى: أن نسلم بأن إجماع من سبقنا من أهل الملل ليس حجة- كما هو قول الأكثرين من العلماء- ولكن هناك فرقا بيننا وبينهم، لأنه لم يرد فى حقهم من الدلالة الدالة على الاحتجاج بإجماعهم ما ورد فى علماء هذه الأمة فافترقا " (?) .

وخلاصة الوجهين أننا إذا أخذنا بمذهب الأسفرايينى ومن معه فإجماعنا كإجماعهم كلاهما يحتج به وإن أخذنا بمذهب الأكثرين فإن إجماعنا قد وردت الأدلة بحجيته ولم ترد الأدلة باعتبار إجماعهم حجة، فهذا هو الفرق بين إجماعنا وإجماعهم.

وثالث المعانى المعقولة يرجع إلى ما هو مقرر من أن كل حكم لابد أن يكون ثابتا بدليل، والإجماع لا يكون فى نظر القائلين بحجيته إلا عن دليل، والدليل يغنى عنه، ثم إن بعض الأحكام الشرعية لا يكون إجماع الأمة دليلا عليها كالتوحيد، وكذلك سائر الأحكام العقلية (?) .

ويرد الآمدى على ذلك بقوله:

" لا نسلم أنه إذا كان الحكم ثبت بالدليل لا يجوز إثباته بالإجماع، أى فهذا ما جرى عليه العلماء حين يقولون: هذا الحكم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، وأما التوحيد فلا نسلم أن الإجماع فيه ليس بحجة وإن سلمنا أنه لا يكون حجة فيه، بل فى الأحكام الشرعية، أى العملية لا غير، فإن بينهما فرقا، هو أن التوحيد لا يجوز فيه تقليد العامى للعالم، وإنما يرجع إلى أدلة يشترك فيها الكل، وهى أدلة العقل بخلاف الأحكام الشرعية، العملية، فإنه يجب على العامى الأخذ بقول العالم فيها، وإذا جاز أو وجب الأخذ بقول الواحد كان الأخذ بقول الجماعة أولى (?) .

هذا هو كلام المنكرين بحجية الإجماع والرد عليهم، فى المسلك الأول وهو المعارضة بالكتاب والسنة والمعقول.

المسلك الثانى: مناقشتهم وتأويلهم

لأدلة الجمهور

أما مناقشتهم لأدلة الجمهور فقد تقدمت عند عرض هذه الأدلة فلا نعود اليها وأما تأويلهم للأدلة، بحملها على معان أخرى، فمثل: قولهم فى تأويل حديث " لا تجتمع أمتى على ضلالة "، فإنهم فسروا الضلالة بالكفر والبدعة، وقالوا: لعله أراد عصمة جميعهم عن الكفر بالتأويل والشبهة، والرواية التى تقول " لا تجتمع أمتى على الخطأ " غير متواترة وإن صحت فالخطأ أيضا عام يمكن حمله على الكفر.

ويرد الغزالى على هذا بقوله:

" قلنا الضلال فى وضع اللسان لا يناسب الكفر، قال الله تعالى: " ووجدك ضالا فهدى" (?) ، وقال تعالى، إخبارا عن موسى عليه السلام: " قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين " (?) وما أراد من الكافرين، بل أراد من المخطئين، يقال: ضل فلان عن الطريق، وضل سعى فلان، كل ذلك الخطأ. كيف وقد فهم ضرورة من هذه الألفاظ تعظيم شأن هذه الأمة وتخصيصها بهذه الفضيلة.

أما العصمة عن الكفر فقد أنعم بها فى حق على وابن مسعود وأبى، وزيد، على مذهب النظام لأنهم ماتوا على الحق.

وكم من أحاد عصموا عن الكفر حتى ماتوا، فأى خاصية للأمة؟

فدل على أنه أراد ما لم يعصم عنه الآحاد، من سهو وخطأ وكذب، وتعصم عنه الأمة تنزيلا لجميع الأمة منزلة النبى صلى الله عليه وسلم فى العصمة عن الخطأ فى الدين، أما فى غير الدين من إنشاء حرب وصلح وعمارة بلدة، فالعموم يقتضى العصمة للأمة عنه أيضا، ولكن ذلك مشكوك فيه وأمر الدين مقطوع بوجوب العصمة فيه، كما فى حق النبى صلى الله عليه وسلم، فإنه أخطأ فى أمر تدبير النخل، ثم قال: " أنتم أعرف بأمر دنياكم،- وأنا أعرف بأمر دينكم " (?) .

إلى غير ذلك من التأويلات التى لا نطيل بذكرها، وقد عنى الغزالى بإيرادها والرد عليها فى المستصفى، فمن شاء فليرجع إليه فى الموضع الذى ذكرناه.

رابعا: هل الإجماع عند القائلين بحجيته قطعى أو ظنى؟

قال الشوكانى: " اختلف القائلون بحجية الإجماع هل هو حجة قطعية أو ظنية:

فذهب جماعة منهم إلى أنه حجة قطعية، وبه قال الصيرفى، وابن برهان، وجزم به من الحنفية الدبوسى، وشمس الأئمة.

وقال الأصفهانى: إن هذا القول هو المشهور، وأنه يقدم الإجماع على الأدلة كلها، ولا يعارضه دليل أصلا، ونسبه إلى الأكثرين.

قال: بحيث يكفر مخالفه، أو يضلل ويبدع. وقال جماعة، منهم الرازى والآمدى: أنه لا يفيد إلا الظن.

وقال جماعة بالتفصيل بين ما اتفق عليه المعتبرون فيكون حجة قطعية، وبين ما اختلفوا فيه كالسكوتى وما ندر مخالفه فيكون حجة ظنية 0

وقال البزدوى وجماعة من الحنفية: الإجماع مراتب: فإجماع الصحابة مثل الكتاب والخبر المتواتر وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الأحاديث والإجماع الذى سبق فيه خلاف فى العصر السابق بمنزلة خبر الواحد، واختار بعضهم فى الكل أنه يوجب العمل لا العلم فهذه مذاهب أربعة " (?) .

وفى البزدوى وشرحه: " أن الأصل فى الإجماع أن يكون موجبا للحكم قطعا كالكتاب والسنة، فإن لم يثبت اليقين به فى بعض المواضع فذلك بسبب العوارض كالآية المؤولة وخبر الواحد " (?) .

ومن أهل الهوى من لم يجعل الإجماع حجة قاطعة لأن كل واحد منهم اعتمد ما لا يوجب العلم، لكن هذا خلاف الكتاب والسنة والدليل المعقول (?) .

يريد الأدلة التى استدل بها القائلون بحجيته فهى دالة على أنه حجة قاطعة فى نظره.

" فصار الإجماع كآية من الكتاب أو حديث متواتر فى وجوب العمل والعلم به فيكفر جاحده فى الأصل " (?) .

" أى يحكم بكفر من أنكر أصل الإجماع بأن قال ليس الإجماع بحجة، أما من أنكر تحقق الإجماع فى حكم بأن قال لم يثبت فيه إجماع أو أنكر الإجماع الذى اختلف فيه فلا " (?) .

أى كالإجماع السكوتى الذى فيه خلاف الشافعى وغيره، والمنقول بلسان الآحاد.

واعلم أن العلماء بعد ما اتفقوا على أن إنكار حكم الإجماع الظنى، كالإجماع السكوتى، والمنقول بلسان الآحاد، غير موجب للكفر، اختلفوا فى إنكار حكم الإجماع القطعى كإجماع الصحابة مثلا.

" فبعض المتكلمين، أى الذين تكلموا فى هذا الموضوع، لم يجعله موجبا للكفر بناء على أن الإجماع عنده حجة ظنية، فإنكار حكمه لا يوجب الكفر كإنكار الحكم الثابت بخبر الواحد أو القياس، وذكر هذا القائل، وهو القاضى الشوكانى- فى تصنيف له- وهو كتاب إرشاد الفحول " والعجب أن الفقهاء أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار، وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه هذه العمومات لا يكفر إذا كان الإنكار لتأويل، ثم يقولون: الحكم الذى دل عليه الإجماع مقطوع به، ومخالفه كافر، فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من الأصل، وذلك غفلة عظيمة " (?) .

ويستمر عبد العزيز البخارى فى كلامه فيقول: " وبعضهم جعلوه موجبا للكفر لأن الإجماع حجة قطعية كآية من الكتاب، قطعية الدلالة، أو خبر متواتر قطعى الدلالة، فإنكاره يوجب الكفر لا

محالة ".

" ومنهم من فصل فقال: إن كان الحكم المجمع عليه مما يشترك الخاصة والعامة فى معرفته، مثل أعداد الصلوات وركعاتها وفرض الحج والصيام وزمانهما، ومثل تحريم الزنا وشرب الخمر والسرقة والربا، كفر منكره لأنه صار بإنكاره جاحدا لما هو من دين الرسول قطعا، فصار كالجاحد لصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن كان مما ينفرد الخاصة بمعرفته كتحريم تزوج المرأة على عمتها وخالتها، وفساد الحج بالوطء قبل الوقوف بعرفة وتوريث الجدة السدس، وحجب بنى الأم بالجد، ومنع توريث القاتل، لا يكفر منكره ولكن يحكم بضلاله وخطئه، لأن هذا الإجماع وإن كان قطعيا أيضا، إلا أن المنكر متأول، حيث جعل المراد من الأمة والمؤمنين جميعهم والتأويل مانع من الإكفار، كتأويل أهل الأهواء النصوص القاطعة، وتبين بهذا التفصيل أن تعجب من قال بالقول الأول، يريد الشوكانى، من الفقهاء ليس فى محله، فإنهم ما حكموا بكفر منكر كل إجماع ولم يجعلوا الفرع أقوى من الأصل، ولم يغفلوا عنه (?) .

وفى شرح النسفى وملاجيون على المنار: أن الإجماع على مراتب: فالأقوى إجماع الصحابة نصا فإنه مثل الآية والخبر المتواتر فيكفر جاحده كما يكفر جاحد ما ثبت بالكتاب أو التواتر لأنه لا خلاف فيه، ففيهم عترة الرسول وأهل المدينة، ثم الذى نص البعض وسكت الباقون من الصحابة، وهو المسمى بالإجماع السكوتى، ولا يكفر جاحده وإن كان من الأدلة القطعية، أى عند الحنفية، ثم إجماع من بعدهم، أى بعد الصحابة من أهل كل عصر على حكم لم يظهر فيه خلاف من سبقهم من الصحابة، فهو بمنزلة الخبر المشهور، يفيد الطمأنينة دون اليقين، ثم إجماعهم على قول سبقهم فيه مخالف، يعنى اختلفوا أولا على قولين، ثم أجمع من بعدهم على قول واحد، فهذا دون الكل، فهو بمنزلة خبر الواحد يوجب العمل دون العلم، ويكون مقدما على القياس كخبر الواحد " (?) .

وقال صاحب طلعة الشمس فى أصول الإباضية: " الإجماع القولى حجة قطعية يفسق من خالفها عند الجمهور، ولكن كونها قطعية بعد كمال شروطها وفى موضع لا يكون فيها خلاف فما وقع فيه الخلاف أنه إجماع أم غير إجماع فليس بحجة قطعية اتفاقا " (?) .

"أما الإجماع السكوتى فهو حجة ظنية توجب العمل ولا تفيد العلم مثل خبر العدل، فمن خالف الإجماع السكوتى لا يحكم بفسقه على الصحيح، كما لا يحكم بفسقه من خالف خبر الآحاد، لأن التفسيق لا يكون إلا مع مخالفة الدليل القاطع " (?) .

ويقول ابن لقمان فى " الكافل بنيل السول فى علم الأصول على مذهب الزيدية ".

والإجماع السكوتى الجامع للشروط حجة ظنية، وكذا القولى أن نقل آحادا، فإن تواتر فحجة قاطعة يفسق مخالفه " (?) .

ومن العلماء المعترفين بحجية الإجماع من أنكر حجية ما يسمى بالإجماع السكوتى، ومنهم من أنكر أن يكون صدور القول من البعض وسكوت الآخرين، إجماعا، فهو يعارض حتى فى التسمية.

ويتلخص القول فى ذلك، على ما بينه الإسنوى فى شرحه على المنهاج كما يأتى:

1- إذا قال بعض المجتهدين قولا، وعرف به الباقون فسكتوا عنه ولم ينكروا عليه، ففيه مذاهب: أصحها عند الإمام: أنه لا يكون إجماعا ولا حجة، لما سيأتى.

ثم قال هو والآمدى أنه مذهب الشافعى، وقال فى البرهان أنه ظاهر مذهب الشافعى، وقال الغزالى فى المنخول، نص عليه الشافعى فى الجديد.

والثانى، وهو مذهب أبى على الجبائى:

أنه إجماع بعد انقراض عصرهم لأن استمرارهم على السكوت إلى الموت يضعف الاحتمال.

والثالث: قاله أبو هاشم بن أبى على: أنه ليس بإجماع لكنه حجة.

وحكى فى المحصول عن ابن أبى هريرة: أنه إن كان القائل حاكما لم يكن إجماعا ولا حجة.

وحكى الآمدى عن الإمام أحمد وأكثر الحنفية: أنه إجماع وحجة، واختار الآمدى أنه إجماع ظنى يحتج به، وهو قريب من مذهب أبى هاشم، والذى ذكره الآمدى هنا محله قبل انقراض العصر وأما بعد انقراضه فإنه يكون إجماعا على ما نبه عليه فى مسألة انقراض العصر " (?) .

وفى بيان رأى الحنفية ووجهة المخالفين لهم من الشافعية، والرد عليهم يقول ملاجيون فى شرحه على المنار: " إذا اتفق بعضهم على قول أو فعل وسكت الباقون منهم، ولا يردون عليهم بعد مدة التأمل، وهى ثلاثة أيام أو مجلس العلم، ويسمى هذا إجماعا سكوتيا، فهو مقبول عندنا، أى الحنفية وفيه خلاف الشافعى رحمه الله لأن السكوت كما يكون للموافقة يكون للمهابة ولا يدل على الرضا كما روى عن ابن عباس أنه خالف عمر رضى الله عنه فى مسألة العول.

فقيل له: هلا أظهرت حجتك على عمر رضى الله عنه 0

فقال: كان رجلا مهيبا فهبته، ومنعتنى درته.

والجواب: أن هذا غير صحيح، لأن عمر رضى الله عنه كان أشد انقيادا لاستماع الحق من غيره حتى كان يقول: ولا خير فيكم ما لم تقولوا، ولا خير فى ما لم أسمع.

وكيف يظن فى حق الصحابة التقصير فى أمور الدين والسكوت عن الحق فى موضع الحاجة، وقد قال عليه السلام: "الساكت عن الحق شيطان أخرس " (?) .

وهناك مناقشات غير ذلك بين الحنفية والشافعية لا نطيل بذكرها ويمكن معرفتها بالرجوع إلى شرح النسفى على المنار للحنفية (?) .

وشرح الإسنوى على المنهاج للشافعية (?) :

2- وهناك فرع يذكر بعد ذلك وخلاصته، كما ذكره الإسنوى: " إذا قال بعض المجتهدين قولا ولم ينتشر ذلك القول بحيث يعلم أنه بلغ الجميع، ولم يسمع من أحد ما يخالفه، فهل يكون كما إذا قال البعض وسكت الباقون عن إنكاره أم لا.

اختلفوا فيه كما قاله فى المحصول، فمنهم من قال: يلحق به، لأن الظاهر وصوله إليهم، ومنهم من قال: لا يلحق به، لأنا لا نعلم هل بلغهم أم لا "، واختاره الآمدى.

ومنهم من قال: إن كان ذلك القول فيما تعم به البلوى أى فيما تمس الحاجة إليه، فيكون كقول البعض وسكوت الباقين، لأن عموم البلوى يقتضى حصول العلم به، وإن لم يكن كذلك فلا لاحتمال الذهول عنه، قال الإمام: وهذا التفصيل هو الحق " (?) .

من هم أهل الإجماع

المراد بأهل الإجماع من يعتبر إجماعهم إذا اتفقوا على أمر من الأمور فى عصر من الأعصار ويعتد بمخالفتهم إذا خالفوا فلا ينعقد الإجماع مع مخالفتهم.

وقد قدم الغزالى فى المستصفى لهذا الموضوع بمقدمة فقال: " الركن الأول من ركنى الإجماع المجمعون وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وظاهر هذا يتناول كل مسلم،، لكن لكل ظاهر طرفان واضحان فى النفى والإثبات، وأوساط متشابهة:

أما الواضح فى الإثبات فهو كل مجتهد مقبول الفتوى، فهو من أهل الحل والعقد قطعا، ولابد من موافقته فى الإجماع، وأما الواضح فى النفى، فالأطفال والمجانين والأجنة، فإنهم وإن كانوا من الأمة فنعلم أنه عليه الصلاة والسلام ما أراد بقوله: " لا تجتمع أمتى على الخطأ " إلا من يتصور منه الوفاق والخلاف فى المسألة بعد فهمها، فلا يدخل فيه من لا يفهمها، وبين الدرجتين العوام المكلفون، والفقيه الذى ليس بأصولى، والأصولى الذى ليس بفقيه، والمجتهد الفاسق، والمبتدع، والناشىء من التابعين مثلا، إذا قارب رتبة الاجتهاد فى عصر الصحابة " (?) .

ثم أفرد الغزالى لكل من هؤلاء الذين ذكر أنهم بين الدرجتين بحثا.

ونحن نتبع ترتيبه، مفردين لكل منهم بحثا، غير متقيدين برأى الغزالى وحده فى الموضوع:

أولا: دخول العوام فى الإجماع

يرى الغزالى أنه " يتصور دخول العوام فى الإجماع، فإن الشريعة تنقسم إلى ما يشترك فى دركه العوام والخواص كالصلوات الخمس، ووجوب الصوم، والزكاة، والحج، فهذا مجمع عليه، والعوام وافقوا الخواص فى الإجماع، وإلى ما يختص بدركه الخواص، فتفصيل أحكام الصلاة والبيع والتدبير والاستيلاد، فما أجمع عليه الخواص فالعوام متفقون على أن الحق فيه ما أجمع عليه أهل الحل والعقد لا يضمرون فيه خلافا أصلا، فهم موافقون أيضا فيه، ويحسن تسمية ذلك إجماع الأمة قاطبة.

فإذا كل مجمع عليه من المجتهدين فهو مجمع عليه من جهة العوام وبه يتم إجماع الأمة.

فإن قيل: فلو خالف عامى فى واقعة أجمع عليها الخواص من أهل العصر، فهل ينعقد الإجماع دونه؟

إن كان ينعقد فكيف خرج العامى من الأمة، وإن لم ينعقد فكيف يعقد بقول العامى؟

قلنا: قد اختلف الناس فيه، فقال قوم:

لا ينعقد، لأنه من الأمة فلابد من تسليمه بالجملة أو بالتفصيل.

وقال آخرون- وهو الأصح- إنه ينعقد بدليلين:

أحدهما: إن العامى ليس أهلا لطلب الصواب، إذ ليس له آلة هذا الشأن، فهو كالصبى والمجنون فى نقصان الآلة، ولا يفهم من عصمة الأمة من الخطأ إلا عصمة من يتصور منه الإصابة، لأهليته.

والثانى- وهو الأقوى- أن العصر الأول من الصحابة قد أجمعوا على أنه لا عبرة بالعوام فى هذا الباب، أعنى خواص الصحابة وعوامهم، ولأن العامى إذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل، وأنه ليس يدرى ما يقول، وأنه ليس أهلا للوفاق والخلاف فيه، وعن هذا لا يتصور صدور هذا من عامى عاقل، لأن العاقل يفوض مالا يدرى إلى من يدرى (?) .

ويقول عبد العزيز البخارى فى حاشيته على كشف الأسرار: " اعلم أن الإجماع إنما صار حجة بالنصوص الواردة بلفظ " الأمة " مثل قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا ".

وقوله جل ذكره " كنتم خير أمة أخرجت للناس ".

وقوله عليه الصلاة والسلام: " لا تجتمع أمتى على الضلالة " وهذا اللفظ يتناول بظاهره كل مسلم.

ثم ذكر ما ذكره الغزالى عن الطرفين الواضحين فى النفى والإثبات، وأن الأطفال والمجانين والأجنة، لا يدخلون، وأضاف إليهم من سيولد إلى يوم القيامة، لأنه وإن كان اللفظ ظاهرا فيه، فإن ما دل على كون الإجماع حجة دل على وجوب التمسك به، ولا يمكن التمسك بقول الكل قبل يوم القيامة لعدم كمال المجمعين، ولا فى يوم القيامة لانقطاع التكليف.

ثم ذكر أن أهلية الإجماع إنما تثبت بصفة الاجتهاد والاستقامة فى الدين عملا واعتقادا، لأن النصوص التى جعلت الإجماع حجة تدل على اشتراط ذلك (?) .

ويقول ملاجيون الحنفى فى شرحه علي المنار: " أهل الإجماع من كان مجتهدا صالحا، إلا فيما يستغنى عن الرأى، فإنه لا يشترط فيه أهل الاجتهاد بل لابد فيه من اتفاق الكل من الخواص والعوام حتى لو خالف واحد منهم لم يكن إجماعا كنقل القرآن وأعداد الركعات ومقادير الزكاة، واستقراض الخبز، والاستحمام، وقال أبو بكر الباقلانى: إن الاجتهاد ليس بشرط فى المسائل الاجتهادية أيضا ويكفى قول العوام فى انعقاد الإجماع.

والجواب أن عليهم أن يقلدوا المجتهدين، ولا يعتبر خلافهم فيما يجب عليهم من التقليد (?) .

واختار الآمدى أن موافقة العامى ومخالفته لها اعتبار فى الإجماع، موافقا فى ذلك القاضى أبا بكر الباقلانى.

قال: " وذلك لأن قول الأمة إنما كان حجة لعصمتها عن الخطأ بما دلت عليه الدلائل السمعية من قبل ولا يمتنع أن تكون العصمة من صفات الهيئة الاجتماعية من الخاصة والعامة، وإذا كان كذلك فلا يلزم أن تكون العصمة الثابتة للكل ثابتة للبعض، لأن الحكم الثابت للجملة لا يلزم أن يكون ثابتا للأفراد ".

" وبالجملة فهذه المسألة اجتهادية، غير أن الاحتجاج بالإجماع عند دخول العوام فيه يكون قطعيا وبدونهم يكون ظنيا " (?)

وفى روضة الناظر فى أصول الحنابلة:

مثل ما أوردناه نقلا عن الغزالى دون مخالفة له (?) .

ومثل ذلك أيضا فى مختصر ابن الحاجب المالكى، وشرح العضد عليه (?) .

وفى شرح ابن لقمان على الكافل فى أصول الزيدية أنه " لا يعتبر فى الإجماع موافقة المقلد ولا مخالفته " (?) فهو مختص بالمجتهدين.

وفى حاشيته: " والمراد بالمجتهدين من كان يتمكن من النظر ولو فى بعض المسائل لأن الاجتهاد يتجزأ " (?) . وفى طلعة الشمس، فى أصول الإباضية:

" ويخرج، أى بقيد المجتهدين، عوام الأمة الذين لا نظر لهم فى شىء من الشرعيات، وإنما يأخذون الأحكام عن علمائهم بطريق الاتباع والتقليد فلا يقدح خلافهم فى صحة الإجماع، ولا يعتبر وفاقهم فى صحته أيضا، وقيل: يعتبر وفاق العوام فى صحة الإجماع، لأن دليل الإجماع، لما اقتضى بظاهره دخول العوام احتمل أنه لا يتم قول العلماء إجماعا إلا بانقياد العوام لهم وإجابتهم إلى ذلك القول، ولو لم يكن عن اعتقاد لظاهر الأدلة، ولا مانع من وقوف كون الإجماع حجة شرعية على إجابة العوام إذ لا طريق للعقل إلى كونه حجة، وإنما يقتضيه الشرع فقط، ويجوز أن يكون فى انقيادهم للعلماء تمام كون قولهم حجة لوجه يعلمه الله تعالى ولا نعلمه فى المصالح الشرعية، ونقطع بذلك لأجل ورود العموم ولم يرد له مخصص، فلو لم يكن على عمومه خصصه الشرع ورد بأنه لما علمنا أنه لا تأثير للإجماع إلا حيث يكون للمجمعين مستند من دليل أو إمارة علمنا أنه لا تأثير لقول من لا مستند له (?) ".

ثانيا: دخول الأصوليين وفقهاء

الفروع، والنحويين وغيرهم

ممن لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد المطلق

يصور الغزالى خلاف العلماء فى ذلك فيقول: إذا قلنا: لا يعتبر قول العوام، لقصور آلتهم، فرب متكلم ونحوى ومفسر ومحدث هو ناقص الآلة فى درك الأحكام.

فقال قوم: لا يعتد إلا بقول أئمة المذاهب المستقلين بالفتوى، كالشافعى، ومالك، وأبى حنيفة وأمثالهم من الصحابة والتابعين.

ومنهم من ضم إلى الأئمة، الفقهاء الحافظين لأحكام الفروع، الناهضين بها، لكن أخرج الأصولى الذى لا يعرف تفاصيل الفروع ولا يحفظها (?) .

ويزيد الآمدى علي هذا مستكملا فيقول: ومنهم من عكس الحال وأعتبر قول الأصولى دون

الفقيه (?) .

وبالنسبة لغير الأصولى والفقيه فى الفروع، يقرر المقدسى فى روضة الناظر أن من يعرف من العلم ما لا أثر له فى معرفة الحكم كأهل الكلام واللغة والنحو ودقائق الحساب، فهو كالعامى لا يعتد بخلافه فإن كل أحد عامى بالنسبة إلى ما لم يحصل علمه وإن حصل علما سواه، هذا فيمن علمه لا أثر له فى معرفة الحكم، أما إذا كان الكلام فى مسألة تنبنى على النحو مثلا، مثل أن يبنى النحوى مسائل الشرط فى الطلاق على باب الشرط والجزاء فى العربية، ففى الاعتداد بخلافه أو عدم الاعتداد به رأيان (?) .

ورجح الغزالى من هذه الآراء: أنه يعتد بخلاف الأصولى وبخلاف الفقيه المبرز، لأنهما أهل للنظر على الجملة، يقولان ما يقولان عن دليل، أما النحوى والمتكلم فلا يعتد بهما إلا أن يقع الكلام فى مسألة تنبنى على النحو أو على الكلام، وهو يميل إلى اعتبار الأصولى أولى فى الاعتداد به من فقيه الفروع فيقول:

والصحيح أن الأصولى العارف بمدارك الأحكام وكيفية تلقيها من المفهوم والمنظوم، وصيغة الأمر والنهى والعموم، وكيفية تفهم النصوص والتعليل أولى بالاعتداد بقوله من الفقيه الحافظ للفروع، بل ذو الآلة من هو متمكن من درك الأحكام إذا أراد وإن لم يحفظ الفروع، والأصولى قادر عليه والفقيه الحافظ للفروع - أى الذى ليس تبريز فى الفقه والترجيح مع حفظه للفروع- لا يتمكن منه وآية أنه لا يعتبر حفظ الفروع: أن العباس والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبا عبيدة ابن الجراح وأمثالهم ممن لم ينصب نفسه للفتوى، ولم يتظاهر بها تظاهر العبادلة (?) .

وتظاهر على وزيد بن ثابت ومعاذ، كانوا يعتدون بخلافهم لو خالفوا، وكيف لا وقد كانوا صالحين للإمامة العظمى، ولاسيما لكون أكثرهم فى الشورى، وما كانوا يحفظون الفروع، بل لم تكن الفروع موضوعة بعد، لكن عرفوا الكتاب والسنة وكانوا أهلا لفهمهما، فينبغى أن يعتد بخلاف الأصولى وبخلاف الفقيه المبرز (?) .

وحكى عبد العزيز البخارى الخلاف فى اعتبار الأصولى والفقيه الفروعى، فذكر أن من العلماء من اعتبر الأصولى دون الفروعى، ومنهم من اعتبر الفروعى دون الأصولى، ومنهم من اعتبرهما جميعا، ومنهم من نفاهما جميعا.

وقال: إن الرأى الأخير هو ما يشير إليه كلام الشيخ- أى البزدوى- نظرا إلى عدم الأهلية فيهما وهى المعتبرة والموجودة فى أهل فى أئمة الحل والعقد من المجتهدين (?) .

ويرى ابن الحاجب المالكى عدم الاعتداد بوفاق المقلد، أى أن الإجماع ينعقد بدونه فلا ينتظر وفاقه ولو كان قد حصل طرفا من العلوم التى لها مدخل فى الاجتهاد، أصوليا كان أو فروعيا أو

غيرهما (?) .

وكذلك الزيدية فإنهم يقولون: لا اعتبار بالمقلد فى الإجماع سواء وافق أو خالف على الأرجح (?) .

وهذا هو ما رجحه أيضا المقدسى الحنبلى فى روضة الناظر (?) .

ثالثا: المجتهد الفاسق أو المبتدع

لا يعتد فى الإجماع بقول غير مسلم، فلا يعتد باليهود ولا بالنصارى، ولا بالمرتدين عن الإسلام رغبة عنه، ولا بالمنكرين لما علم من الدين بالضرورة من غير شبهة.

وذلك لأن الإجماع هو اتفاق الأمة أو مجتهدى الأمة، وهؤلاء ليسوا من الأمة.

أما الفاسق باعتقاد أو فعل، ففى الاعتداد به فى الإجماع خلاف وتفصيل.

فالحنفية يقولون، كما فى كشف الأسرار للبزدوى: " إن أهلية الإجماع إنما تثبت بأهلية الكرامة وذلك لكل مجتهد ليس فيه هوى ولا فسق، أما الفسق فيورث التهمة ويسقط العدالة، وبأهلية أداء الشهادة، وصفة الأمر بالمعروف ثبت هذا الحكم، وأما الهوى، فإن كان صاحبه يدعو الناس إليه، فقد سقطت عدالته بالتعصب الباطل، وبالسفه، وكذلك أن مجن به، وكذلك أن غلا حتى كفر.

وصاحب الهوى المشهور- به ليس من الأمة على الإطلاق (?) .

ويوضح ذلك شارحه عبد العزيز البخارى فيقول:

" إن أهلية الإجماع ثبتت بصفة الاجتهاد والاستقامة فى الدين عملا واعتقادا، لأن النصوص والحجج التى جعلت الإجماع حجة تدل على اشتراط هذه المعانى: أما اشتراط الاستقامة عملا، وهى العدالة فلأن حكم الإجماع وهو كونه ملزما إنما ثبت بأهلية أداء الشهادة كما قال تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء عل الناس ".

وبصفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما قال عز وجل: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" لأنهما يوجبان اتباع الآمر بالمعروف والناهى، فيما يأمر وينهى، إذ لو لم يلزم الاتباع لا يكون فيهما فائدة، وإنما يلزم اتباع العدل المرضى فيما يأمر به وينهى عنه دون غيره، لأن ذلك بطريق الكرامة، والمستحق للكرامات على الإطلاق من كان بهذه الصفة، والفسق يسقط العدالة فلم يبق به أهلا لأداء الشهادة، ولا يوجب اتباع قوله لأن التوقف فى قوله واجب بالنص، يقصد قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " (?) .

وذلك ينافى وجوب الاتباع ويورث التهمة لأنه لما لم يتحرز من إظهار فعل " ما يعتقده باطلا، لا يتحرز من إظهار قول يعتقده باطلا، فثبت أن الفاسق ليس من أهل الإجماع، وأنه لا اعتبار لقوله وافق أم خالف.

وأما اتباع الهوى والبدعة فمانع أيضا من أهلية الإجماع، بشرط أن يكون صاحبه داعيا إليه، أو ماجنا به، أو غاليا فيه بحيث يكفر به، فإنه إذا كان يدعو الناس إلى معتقده، سقطت عدالته لأنه يتعصب لذلك حينئذ تعصبا باطلا حتى يوصف بالسفه، فيصير متهما فى أمر الدين فلا يعتبر قوله فى الإجماع.

وكذلك إن مجن بالهوى، أى لم يبال بما قال وما صنع وما قيل له، لأن ترك المبالاة مسقط للعدالة أيضا.

وكذلك إن غلا فيه حتى وجب إكفاره به، فلا يعتبر خلافه ووفاقه لعدم دخوله فى مسمى الأمة المشهود لها بالعصمة وإن صلى إلى القبلة، واعتقد نفسه مسلما لأن الأمة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة، بل عن المؤمنين وهو كافر وإن كان لا يدرى أنه كافر" (?) .

وبعض الشافعية كأبى إسحاق الشيرازى وإماما الحرمين (?) ، والآمدى يرون أنه لا ينعقد الإجماع دون المجتهد الفاسق ببدعته أو بفعله، إلا إذا كفر ببدعته، كذلك لأنه من أهل الحل والعقد، وداخل فى مفهوم لفظ الأمة المشهود لهم بالعصمة، وغايته أن يكون فاسقا وفسقه غير مخل فى نظرهم بأهلية الاجتهاد، والظاهر من حاله فيما يخبر به من اجتهاده الصدق، كإخبار غيره من المجتهدين، كيف وإنه قد يعلم صدق الفاسق بقرائن أحواله فى مباحثاته وأقواله، وإذا علم صدقه وهو مجتهد كان كغيره من المجتهدين " (?) .

وممن قال بذلك من الشافعية أيضا: الغزالى، فإنه قال فى المستصفى:

" المبتدع إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه إذا لم يكفر بل هو كمجتهد فاسق وخلاف المجتهد الفاسق معتبر (?) .

وهناك رأى ثالث فى المجتهد المبتدع الذى لم يكفر ببدعته، وهو: أن الإجماع لا ينعقد فى حقه إذا خالف، وينعقد فى حق غيره، أى أنه يجوز له مخالفة إجماع من عداه، ولا يجوز ذلك لغيره، فلا يكون الاتفاق مع مخالفته حجة عليه، ويكون حجة على من سواه (?) .

ونسب هذا القول إلى بعض الشافعية (?) .

وممن قال بمذهب الحنفية ابن الحاجب وشارح مختصره (?) ، وهو الظاهر أيضا عند الحنابلة (?) .

وبذلك أيضا قال الإباضية (?) .

وأما الزيدية فعندهم رأيان:

أحدهما عدم اعتبار كافر التأويل وفاسقه معا، وذكروا أنه مروى عن جمهور أئمتهم، والرأى الآخر الاعتبار بهما فلا ينعقد من دونهما " إجماع " وهو مروى عن بعض أئمتهم أيضا (?) .

رابعا: لا يختص الإجماع بالصحابة عند الجمهور: إجماع الصحابة حجة بلا خلاف، ولا يعتد العلماء بما يروى عن بعض المبتدعة من أنه ليس بحجة.

والخلاف إنما هو فى اختصاص حجية الإجماع بإجماع الصحابة.

فقد ذهب إلى ذلك الظاهرية (?) ، وأحمد ابن حنبل فى إحدى الروايتين عنه (?) .

قال الظاهرية: إن الإجماع هو إجماع الصحابة فقط وليس لمن بعدهم أن يكون إجماعه حجة، لأن الإجماع إنما يكون عن توقيف، والصحابة هم الذين شهدوا التوقيف (?) ، أى الإعلام الشخصى.

وفى رواية لأبى داود عن أحمد بن حنبل: الإجماع أن نتبع ما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، وهو فى التابعين مخير.

وقد نقل عن أبى حنيفة مثل ذلك إذ يقول: إذا أجمعت الصحابة على شىء سلمنا، وإذا أجمع التابعون زاحمناهم (?) .

وجمهور علماء المذاهب يخالفونهم فى ذلك، ويرون أن الإجماع ليس خاصا بالصحابة رضوان الله عليهم بل هو فى كل عصر.

ِِقرر ذلك الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والزيدية، والإباضية (?) .

والحجة التى تذكر للقائلين بأن الإجماع هو إجماع الصحابة فقط تتلخص فى أن الإجماع إنما صار حجة بصفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والصحابة هم الأصول فى ذلك، لأنهم كانوا هم المخاطبين بقوله تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ". وبقوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " دون غيرهم، إذ الخطاب يتناول الموجود دون المعدوم، وكذلك قوله تعالى: " ويتبع غير سبيل المؤمنين " وقوله عليه الصلاة والسلام: " لا تجتمع أمتى على الضلالة " خاص بالصحابة الموجودين فى زمن النبى- صلى الله عليه وسلم-، إذ هم كل المؤمنين، وكل الأمة، لأن من لم يوجد بعد لا يكون موصوفا بالإيمان، فلا يكون من الأمة، ولأنه لابد فى الإجماع من اتفاق الكل، والعلم باتفاق الكل لا يحصل إلا عند مشاهدة الكل، مع العلم بأنه ليس هناك أحد سواهم، وذلك لا يتأتى إلا فى الجمع المحصور كما فى زمان الصحابة، أما فى سائر الأزمنة فيستحيل معرفة اتفاق جميع المؤمنين على شىء مع كثرتهم وتفرقهم فى مشارق الأرض ومغاربها، ولأن الصحابة أجمعوا على أن كل مسألة لا تكون مجمعا عليها يسوغ فيها الاجتهاد، فلو أجمع غيرهم فى مسألة من هذا النوع لخرجت بهذا الإجماع الجديد عن أن تكون محلا للاجتهاد، وبذلك يكون معنا إجماعان:

أحدهما: إجماع الصحابة، والثانى: إجماع من بعدهم، وهما متناقضان فى أن المسألة محل للاجتهاد أو ليست محلا للاجتهاد، هذه هى حجتهم وقد رد عليهم الجمهور بأن النصوص الموجبة لكون الإجماع حجة تتناول الموجودين فى ذلك الزمان ومن يأتى بعدهم، وإلا لزم ألا ينعقد إجماع الصحابة بعد موت من كان موجودا عند ورود تلك النصوص، لأن إجماعهم حينئذ ليس إجماع جميع المخاطبين وقت ورودها، وقد أجمعوا على صحة إجماع من بقى من الصحابة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعد من مات بعده من الصحابة، وليس ذلك إلا لأن الماضى غير معتبر، كما أن الآتى غير منتظر.

وقولهم: أن العلم باتفاق الكل لا يحصل إلا عند مشاهدة الكل، فاسد أيضا، لأن حاصله يرجع إلى تعذر حصول الإجماع فى غير زمان الصحابة، وهذا لا نزاع فيه وإنما النزاع فى أنه لو حصل كان حجة وكذا شبهتهم الثالثة، فهى فاسدة أيضا، لأنه لو صح ما قالوا لزم امتناع إجماع الصحابة على المسائل الاجتهادية بعين ما ذكروا وهو باطل لإجماعهم على كثير من المسائل الاجتهادية، ولئن سلمنا إجماعهم على تجويز الاجتهاد فى مسألة اجتهادية فهو مشروط بعدم الإجماع الذى قد يجد وحينئذ لا يلزم التعارض، لأن الإجماع إذا وجد على حكم المسألة زال شرط الإجماع السابق على تجويز الاجتهاد فيها، فيزول ذلك الإجماع بزوال شرطه (?) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015