إجزاء

المعنى اللغوى

الإجزاء مصدر أجزأ بمعنى كفى. جاء فى لسان العرب مادة " جزأ "، أجزأه الشىء كفاه. وفى حديث الأضحية: " ولن تجزىء عن أحد بعدك " أى لن تكفى.

وفى حديث آخر: " ليس شىء يجزىء من الطعام والشراب إلا اللبن "، أى ليس شىء يكفى.

ويقال: ما لفلان إجزاء، أى: ماله كفاية.

وفى حديث سهيل: " ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان " أى فعل فعلا ظهر أثره وقام فيه مقاما لم يقمه غيره، ولا كفى فيه كفايته.

المعنى الاصطلاحى

يتكلم علماء أصول الفقه عن الإجزاء عند تقسيمهم لمتعلق الحكم الشرعى، وكلامهم على الصحة والفساد والبطلان، ولهم فى تعريفه مذهبان:

أحدهما: أن الإجزاء هو كون الفعل كافيا فى الخروج عن عهدة التكليف به، وهذا التعريف ينسب إلى فريق من الأصوليين يعرف بفريق المتكلمين.

ثانيهما: أن الإجزاء هو إسقاط القضاء، وهذا التعريف ينسب إلى فريق آخر من الأصوليين يعرف بفريق الفقهاء.

وفى ذلك يقول القرافى فى كتابه الذخيرة (1) : الإجزاء هو كون الفعل كافيا فى الخروج عن عهدة التكليف، وقيل: ما أسقط القضاء.

وقد فصل الإسنوى فى شرحه على المنهاج الكلام على الإجزاء عند المتكلمين وعند الفقهاء، ورجح تعريف المتكلمين. فالإجزاء عند المتكلمين هو الأداء الكافى لسقوط التعبد به، وقد شرح أجزاء هذا التعريف فبين:

أولا: أن الأداء له معنيان: معنى لغوى، ومعنى فقهى.

أما معناه اللغوى فهو الإتيان، من قولهم أديت الشىء أى آتيته، ومنه قوله تعالى: (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى أؤتمن أمانته ((2) .

وأما معناه الاصطلاحى: فهو الإتيان بالعبادة فى وقتها لأول مرة، وهو بالمعنى الأول أعم لأنه يشمل آداء العبادة فى وقتها لأول مرة وإعادتها بعد أول مرة وقضاءها بعد وقتها، والمراد هنا هو هذا المعنى الأعم، وقد غفل عن هذا بعض الناس فظن أن المراد بالأداء المذكور فى تعريف الإجزاء هو المعنى الاصطلاحى ولذلك ادعى أن القضاء والإعادة لا يوصفان بإجزاء لأن القضاء والإعادة لا يسميان فى الاصطلاح بالأداء وهو غلط.

ثانيا: يقال تعبد الله المكلفين بالصلاة، أى دعاهم إلى أن يعبدوه بها وطلبها منهم، فمعنى التعبد بالشىء طلبه،فإذا أتيت بالعبادة إتيانا كافيا لسقوط طلبها بأن اجتمعت فيها شرائطها وانتفت عنها موانعها فقد أجزأتك هذه العبادة وكفتك،وإذا لم تأت بها على هذا النحو فهى غير مجزئة.

ثم ذكر تعريف الفقهاء للإجزاء وبين بطلانه، فالإجزاء عند الفقهاء هو إسقاط القضاء، ومن المعروف أن القضاء إنما يجب بأمر جديد على المذهب الصحيح لا بالأمر الأول.

فإذا أمر الشارع بعبادة أمرا أوليا ولم يأمر بقضائها بأمر ثان فليس معنا إلا أمر واحد، وهذا الأمر الواحد إنما يتجه إلى الأداء الأول فقط ولا شأن له بالأداء الثانى وإذن فالأداء الثانى غير واجب لأنه ليس معنا أمر يوجبه، وإذا لم يكن واجبا فكيف يقال سقط مع أن السقوط فرع الوجوب والثبوت.

على أن القضاء إنما يجب بخروج الوقت حتى لو أخذنا بمذهب من يقول: إن الأمر الأول كاف فى إيجابه فموجبه وسببه هو خروج الوقت، فإذا أدى الصلاة على وجهها فى الوقت فلا ينبغى أن يقال أجزأت بمعنى أنه سقط قضاؤها لأن القضاء لم يجب حتى يقال أنه سقط، ولكن يقال أجزأت بمعنى كفى فعلها عن المطلوب شرعا.

ثم أنكم أيها الفقهاء تقولون أحيانا: هذا المطلوب سقط قضاؤه لأنه أجزأ، فتأتون بعلة ومعلول، أما المعلول فهو قولكم " سقط قضاؤه " وأما العلة فقولكم "لأنه أجزأ "، ومن المعروف أن العلة مغايرة للمعلول، فكيف تعرفون الإجزاء بأنه سقوط القضاء وهل يفسر الشىء بمغايره (3) .

وفى التحرير وشرحه من كتب أصول الحنفية أن الصحة هى ترتب المقصود من الفعل عليه، وذلك فى المعاملات هو الحل والملك، أما فى العبادات فإن المتكلمين قالوا: إنها موافقة أمر الشارع بأن يكون مستجمعا ما يتوقف عليه من الشروط وغيرها وذلك نفسه هو معنى الإجزاء، وقال الفقهاء الصحة والإجزاء فى العبادات هما موافقة أمر الشارع على وجه يندفع به القضاء، وثمرة الخلاف تظهر فيمن صلى على ظن الطهارة ثم تبين له أنه محدث فإن صلاته صحيحة ومجزئة عند المتكلمين لموافقة الأمر إذ المكلف مأمور بأن يصلى بطهارة سواء أكانت معلومة أو مظنونة، وهى فاسدة عند الفقهاء لعدم اندفاع القضاء وتوصف أيضا بأنها غير مجزئة. ثم قال صاحب التحرير بعد أن بين هذا المعنى: " والاتفاق على القضاء عند ظهوره " أى: وقد اتفق المتكلمون والفقهاء على وجوب القضاء عند ظهور عدم الطهارة (4) .

ولذلك قال أبو حامد الغزالى فى المستصفى: وهذه الاصطلاحات وإن اختلفت فلا مشاحة فيها، إذ المعنى متفق عليه (5) .

وقال الإسنوى فى شرحه تعليقا على مسألة ظان الطهارة: فإن قيل إذا لم يتبين أنه محدث فواضح أنه لا قضاء عليه، وليس كلامكم فيه وإن تبين أنه محدث وجب القضاء عليه عند الفقهاء وعند المتكلمين القائلين بالصحة أيضا، فما وجه الخلاف؟

قلنا: الخلاف إنما هو فى إطلاق الاسم أى اسم الإجزاء على الأداء ثم تبين عدم الطهارة، وممن نبه عليه القرافى (6) .

وفى روضة الناظر لموفق الدين ابن قدامة المقدسى الدمشقى، وهو فى الأصول على مذهب الحنابلة: " الصحيح من العبادات ما أجزأ وأسقط القضاء ".

وفى شرحه نقلا عن الشيخ علاء الدين المرداوى فى التحرير: " الصحة مطلقا ترتب الأثر المطلوب من الفعل عليه فبصحة العقد يترتب أثره من ملك غيره، وبصحة العبادة يترتب إجزاؤها وهو الكفاية فى إسقاط التعبد ويختص الإجزاء بالعبادة (7) ".

وفى إرشاد الفحول يقول الشوكانى:

أعلم أن الإتيان بالمأمور به على وجهه الذى أمر به الشارع قد وقع الخلاف فيه بين أهل الأصول: هل يوجب الإجزاء أم لا، وقد فسر الإجزاء بتفسيرين: أحدهما حصول الامتثال به، والآخر سقوط القضاء به، فعلى التفسير الأول أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضى تحقق الإجزاء المفسر بالامتثال، وذلك متفق عليه، فإن معنى الامتثال وحقيقته ذلك.

وإن فسر بسقوط القضاء فقد اختلف فيه، فقال جماعة من أهل الأصول: إن الإتيان بالمأمور به على وجهه يستلزم سقوط القضاء. وقال القاضى عبد الجبار: لا يستلزم.

واستدل فى المحصول على القول الأول بأنه لو لم يقتض الإجزاء لكان يجوز أن يقول السيد لعبده: افعل، فإذا فعلت لا يجزىء عنك، ولو قال ذلك أحد لعد مناقضا.

واستدل للمخالف بأن كثيرا من العبادات يجب على من شرع فيها أن يتمها ويمضى فيها ولا تجزئه عن المأمور به كالحج الفاسد والصوم الذى جامع فيه (8) أى فوجد الإتيان بالمأمور به وهو تتميم الحج أو الصوم الفاسد، ولم يستلزم ذلك سقوط القضاء.

وفى كتاب الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى: مذهب أصحابنا والفقهاء وأكثر المعتزلة أن الإتيان بالمأمور به يدل على الإجزاء خلافا للقاضى عبد الجبار من المعتزلة ومتبعيه فإنه قال لا يدل على الإجزاء.

ثم قال الآمدى: كون الفعل مجزئا قد يطلق بمعنى أنه امتثل به الأمر وذلك إذا أتى به على الوجه الذى أمر به وقد يطلق بمعنى أنه مسقط للقضاء، وإذا علم معنى كون الفعل مجزئا فقد اتفق الكل على أن الإتيان بالمأمور به على الوجه الذى أمر به يكون مجزئا بمعنى كونه امتثالا للأمر، وذلك مما لا خلاف فيه.

وإنما خالف القاضى عبد الجبار فى كونه مجزئا بالاعتبار الآخر (9) ، يريد أن كلام القاضى إنما هو فى الإجزاء الذى هو بمعنى سقوط القضاء فهو ينازع فى أن فعل المأمور به يستلزم سقوط القضاء لما سبق ذكره من أن المكلف قد يطالب بإتمام الحج أو الصوم الفاسد فيتمهما فيكون بذلك فاعلا لما طلب منه ومع ذلك لا يسقط قضاؤهما.

ما الذى يوصف بالإجزاء وعدمه

لقد فرق علماء الأصول بين الصحة الإجزاء بأن الصحة توصف بها العبادات والمعاملات على حد سواء، فيقال هذه صلاة صحيحة وهذا بيع صحيح.

أما الإجزاء فلا يوصف به إلا العبادات، فيقال: هذه صلاة مجزئة، ولا يقال هذا بيع مجزئ.

وفى ذلك يقول والإسنوى فى شرحه على المنهاج: معنى الإجزاء وعدمه قريب من معنى الصحة والبطلان، كما قال فى المحصول، وبين الإجزاء والصحة فرق، وهو أن الصحة أعم لأنها تكون صفة للعبادات والمعاملات، وأما الإجزاء فلا يوصف به إلا العبادات (10) .

وقد نقلنا من قبل ما ذكره شارح روضة الناظر الحنبلى عن الشيخ علاء الدين المرداوى، وفيه يقول: ويختص الإجزاء بالعبادة (11) ، وقد سوى الكمال بن الهمام فى كتابه التحرير بين الصحة الإجزاء فى العبادات خاصة (12) .

وقرر العلماء أيضا: أنه ليس كل فعل من أفعال العبادات يوصف بالإجزاء أو بعدمه، وإنما يوصف بذلك فعل له وجهان: وجه يعتد به،. ووجه لا يعتد به. فالصلاة مثلا إذا وقعت مستوفية الشروط والأركان خالية من الموانع وصفت بالإجزاء، وإذا لم تقع كذلك وصفت بعدم الإجزاء، وقل مثل هذا فى الصوم والحج ... إلخ.

أما ما لا يقع من العبادات إلا على جهة واحدة فلا يوصف بالإجزاء وعدمه، وقد مثلوا لذلك بمثالين:

أحدهما: معرفة الله تعالى، فإنها إما أن تقع فيقال: إن هذا الشخص قد عرف الله تعالى بطريق ما، وإما ألا تقع فلا يكون قد عرفه، وحينئذ لا يقال عرفه معرفة غير مجزئة لأن المعرفة لم تحصل حتى توصف بأنها غير مجزئة.

المثال الثانى: رد الوديعة فإنه إما أن يردها أو لا يردها، فإن ردها قبل قد وقع الرد، وإن لم يرد قبل لم يقع الرد، ولكن لا يقال: مجزئ أو غير مجزئ. وهذا المثال قد مثل به صاحب المنهاج فى أصول الشافعية والإسنوى فى شرحه وتابعه على ذلك صاحبا التحرير والتيسير، كما تابعاه فى المثال الأول وهو معرفة الله تعالى.

وتمثيلهم برد الوديعة كان موضع نقاش بينهم: فهو أولا من باب المعاملات، والمعاملات لا توصف بالإجزاء وعدمه من أصلها سواء أكانت ذات وجهين أم ذات وجه واحد، إلا أن يقال: انظر إلى ناحية العبادة فيها وهى خلوص الذمة أمام الله برد الوديعة وعدم خلوصها بعدم ردها فتكون حينئذ من باب العبادات. وهذا لا يفيد، لأن المعاملات كلها يمكن أن يقال فيها ذلك، إذ هى ذات جانب عبادى تخلص الذمة بموافقة أمر الله فيه، ولا تخلص إذا لم تقع هذه الموافقة.

ومن جهة أخرى: إن الوديعة قد ترد على السفيه والمحجور عليه فلا يكون هذا الرد مجزئا، وقد ترد على المتصرف فيكون هذا الرد مجزئا وإذن فلها وجهان فتوصف بالإجزاء وعدمه، فالتمثيل بها غير دقيق.

ونقل البدخشى فى شرحه على المنهاج للبيضاوى بعد الكلام على المعرفة بالله تعالى ورد الوديعة: أن الفنرى يرى أن الموصوف بالإجزاء وعدمه إنما هو العبادات المحتملة للوجهين دون ما عداها، ويؤيد ذلك بأن بيع النقدين مثلا يحتمل الوجهين، أحدهما أن يكون مستجمعا للشرائط من التساوى والحلول والتقابض فى المجلس، وثانيهما أن يكون قد اختل فيه شىء من الشروط، ففيه احتمال الوجهين، ومع ذلك لا يوصف بالإجزاء وعدمه.

هذا هو رأى الفنرى، وقد علق عليه البدخشى بقوله: كأنه أراد بذلك أن رد الوديعة من المعاملات فلا يوصفا بهما وإن اشتمل على الوجهين، وأقول: الأظهر أن استعمالهما- أى الإجزاء وعدمه- إنما هو فى تفريغ الذمة عن الأمور المتقررة فيها يشهد بذلك التعريفات المذكورة وموارد استعمال الفقهاء ورد الوديعة منها وبهذا يتبين اختلافهم حول هذا المثال ووجهة كل منهم فيه (13) .

ويوصف بالإجزاء وعدمه كل من الفرض والواجب والمندوب أداء أو قضاء أو إعادة وفى ذلك يقول صاحب المنهاج: ويوصف بالإجزاء الأداء المصطلح عليه للعبادة أو قضاؤها أو إعادتها سواء أكان ذلك فرضا أو نفلا (14) .

وفى التحرير والتيسير أن مقتضى كلام الفقهاء أن الإجزاء لا يختص بالواجب، ودليل ذلك حديث الأضحية، عن أبى بردة أنه ذبح شاة قبل الصلاة فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: " لا تجزىء عنك ".

فقال: عندى جذعة من المعز.

فقال النبى عليه الصلاة والسلام:

" تجزىء عنك ولا تجزىء عن أحد بعدك " رواه أبو حنيفة.

وهو بمعناه فى الصحيحين وغيرهما، وهو بناء على أن الأضحية سنة كما هو قول الجمهور، وصاحبى الإمام، فدل ذلك على أن الإجزاء وعدمه يستعملان فيما هو سنة كما يستعملان فيما هو واجب أو فرض (15) .

وفى كلام الفقهاء ما يؤيد ذلك، ومن أمثلة ذلك فى المندوب أن الحنفية يقولون أن الأضحية واجبة عند أبى حنيفة، سنة عند صاحبيه (16) .

وعندما يتكلمون عما يجزىء منها وما لا يجزىء يقولون: ويجزىء منها ما يجزىء من الهدى (17) .

والمالكية يقولون فى الأضحية أيضا، وهى عندهم سنة: ويدخل وقتها الذى لا تجزىء قبله من ذبح الإمام أضحيته بعد صلاته وأدائه الخطبة فلا يجزىء إن سبق ذبحه، ولو أتم بعده، إلا إذا لم يبرزها الإمام للمصلى (18) .

والشافعية يقولون فى المسح على الخف: ويسن مسح أعلاه الساتر لمشط الرجل وأسفله خطوطا بأن يضع يده اليسرى تحت العقب واليمنى على ظهر الأصابع ثم يمر اليمنى إلى ساقه واليسرى إلى أطراف الأصابع من تحت مفرجا بين أصابع يديه، ولا يسن استيغاب المسح، ويكره تكراره، وكذا غسل الخف، وقيل: لا يجزىء، ولو وضع يده المبتلة ولم يمرها أجزأه وقيل: لا (19) .

والحنابلة يقولون فى الأضحية وهى سنة عندهم: فأما العضباء وهى ما ذهب نصف أذنها فلا تجزىء (20) .

مذهب الظاهرية:

ويقول ابن حزم الظاهرى فى الأضحية: هى سنة حسنة وليست فرضا، ثم يقول: ولا تجزىء فى الأضحية العرجاء البين عرجها، ولا المريضة البين مرضها، فإن كان كل ما ذكرنا لا يبين أجزأ، ولا تجزىء فى الأضاحى جذعة ولا جذع أصلا لا من الضأن ولا من غير الضأن ويجزىء ما فوق الجذع (21) .

مذهب الإمامية:

ويقول الإمامية فى الزكاة: يجب دفع الزكاة إلى الإمام إذا طلبها، ويقبل قول المالك لو ادعى الإخراج، ولو بادر المالك بإخراجها أجزأته ويستحب دفعها إلى الإمام ابتداء (22) .

ويحكى المهدى فى البحر عن الهادى والقاسم من الزيدية أن الشاة فى الأضحية تجزىء عن ثلاثة (23) .

وجاء فى شرح النيل فى فقه الإباضية فى الكلام على العقيقة، ندب لمن ولد له ذكر أن ينسك بشاتين ولأنثى بواحدة ولا يجزىء إلا الشياه وإن كان الجمهور على إجزاء الإبل والبقر (24) .

ويتبين من هذه النصوص الفقهية فى المذاهب الثمانية أن الفقهاء يعبرون بالإجزاء وعدمه فيما هو مندوب وسنة، وتعبيرهم بذلك فى الواجب والفرض معروفة كذلك، ومن أمثلته قول الحنفية فى الذبائح ولو عطس عند الذبح فقال: الحمد لله لا تحل فى الأصح لعدم قصد التسمية بخلاف الخطبة حيث يجزئه، لأن المأمور به فى الجمعة ذكر الله تعالى مطلقا، وههنا الشرط ذكر اسم الله تعالى على الذبح (25) .

مذهب المالكية:

وقول المالكية فى الزكاة: ومجىء الساعى- إن كان ثم ساع- شرط وجوب فلا تجب قبل مجيئه، وشرط صحة أيضا فلا تجزىء إذا أخرجها قبله وإنما لم تجزىء مع أن تقديم زكاة العين على الحول بنحو شهر يجزىء لأن التقدم فى زكاة العين رخصة لاحتياج الفقراء إليها دائما مع عدم المانع وليس الأمر هنا كذلك لأن الإخراج قبل مجىء الساعى فيه إبطال لأمر الإمام الذى عينه لجبى الزكاة على نهج الشريعة ومحل عدم الإجزاء ما لم يتخلف الساعى عن المجىء لأمر من الأمور فإن تخلف أجزأت (26) .

مذهب الشافعية:

وقول الشافعية فى باب التيمم: ويشترط قصده إلى التراب لقوله تعالى: (فتيموا صعيدا طيبا، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ((27) أى اقصدوه بأن تنقلوه إلى العضو فلو سفته الريح عليه فردده ونوى لم يجزىء لانتفاء القصد بانتفاء النقل المحقق له وقيل: إن قصد بوقوفه فى مهب الريح التيمم أجزأه ما ذكر كما لو برز فى الوضوء للمطر (28) .

مذهب الحنابلة:

وقول الحنابلة فى باب المسح على الخفين: إذا انقضت المدة أى مدة المسح على الخفين بطل الوضوء، وليس له المسح إلا أن ينزعهما ثم يلبسهما على طهارة كاملة وفيه رواية أخرى: أنه يجزئه غسل قدميه كما لو خلعهما (29) .

وقول الشيعة الإمامية فى باب الزكاة: الشاة المأخوذة فى الزكاة أقلها الجذع من الضأن أو الثنى من المعز ويجزىء الذكر والأنثى (30) .

وقول الزيدية فى باب التيمم، قال زيد ابن على عليه السلام كل شىء تيممت به من الأرض يجزئك وظاهر كلام الإمام أنه يجزئك التيمم بجميع أجزاء الأرض سواء كان ترابا أو رملا أو سبخة أو زرنيخا أو آجرا أو غير ذلك (31) .

وقول الإباضية فى باب الذكاة: وتجزىء التسمية فى الذكاة، أى الذبح، وإن بغير العربية لمن لا يعلمها إن كان ثقة، وتجزىء بكل ذكر لله تعالى مثل بسم الله الرحمن الرحيم، ومثل باسم الله، الله أكبر، ومثل لا إله إلا الله (32) .

مذهب الظاهرية:

وقول ابن حزم الظاهرى فى الكلام على الهدى: قال على: قد صح إجماع المخالفين لنا مع ظاهر الآية يريد قوله تعالى: (فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى ((33) بأن شاة تجزىء فى الهدى الواجب فى التمتع والإحصار والتطوع، وقد عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر شياة ببعير، فصح أن الشاة بإزاء عشر البعير جملة، وأن البقرة كالبعير فى جواز الاشتراك فيهما فى الهدى الواجب فيما ذكرنا، فصح أن البعير والبقرة تجزئان عما يجزىء عنه عشر شياة، وعشر شياة تجزىء عن عشرة، والبعير والبقرة كل واحد منهما عن عشرة وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب وإسحاق بن راهويه، وبه نقول لما ذكرنا (34) .

قد يجزىء ما ليس بواجب عن الواجب

يقول شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافى المالكى: إن إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب هو خلاف الأصل، فلو صلى الإنسان ألف ركعة ما أجزأت عن صلاة الصبح، ودفع ألف دينار صدقة لا يجزىء عن الزكاة، وغير ذلك.

ثم ذكر سبع مسائل مستثناة من هذا للأصل فى مذهب المالكية، زادها بعضهم إلى اثنتى عشرة مسألة.

منها: إذا سلم المصلى من ركعتين ساهيا أنه فى رباعية ثم قام فصلى ركعتين بنية النافلة هل تجزئه هاتان الركعتان عن ركعتى الفرض؟ قولان: مشهورهما عدم الإجزاء ومنها: إذا نسى طواف الإفاضة وهو ركن عندهم وقد طاف طواف الوداع وهو مندوب وراح إلى بلده أجزأه طواف الوداع عن طواف الإفاضة على المشهور من المذهب (35) .

ومنها: وهو مما زيد على ما ذكره القرافى: أن المعتمر إذا ساق هدى التطوع فى عمرته فلما حل منها ووجب نحره أخره ليوم النحر ثم بدا له وأحرم بالحج وحج من عامه ذلك وصار متمتعا. فإن هدى التطوع يجزئه عن متعته ولو لم ينو عند يسوقه أنه يجعله فى متعته على تأويل ست وهو المذهب، كما أجزأه عن قرانه. (36) .

وذكر القرافى فرعا آخر فى إجزاء ما ليس بواجب عن الواجب وهذا الفرع ليس من باب المندوب الذى يجزىء عن الواجب، بل من باب ما لا يجوز الإقدام على فعله، ومع ذلك لو فعله أجزأ عن الواجب.

قال القرافى: المريض إذا كان يقدر على الصوم لكن مع مشقة عظيمة لا يخشى معها علي نفسه ولا عضو من أعضائه، فهذا يسقط عنه الخطاب بخصوص رمضان لأجل المشقة، ويبقى مخاطبا بأحد الشهرين إما شهر الأداء أو شهر القضاء، فإن كان يخشى على نفسه أو عضو من أعضائه أو منفعة من منافعه- يريد منافع العضو- فهذا يحرم عليه الصوم، ولا نقول أنه يجب عليه أحد الشهرين: الأداء أو القضاء، بل يتعين الأداء للتحريم والقضاء للوجوب إن بقى مستجمع الشرائط سالم الموانع فى زمان القضاء، فإن أقدم وصام وفعل المحرم فهل يجزىء عنه؟

قال الغزالى فى المستصفى: يحتمل عدم الإجزاء لأن المحرم لا يجزىء عن الواجب ويحتمل الإجزاء كالصلاة فى الدار المغصوبة فإنه متقرب إلى الله تعالى بترك شهوتى فمه وفرجه جان على نفسه كما أن المصلى فى الدار المغصوبة متقرب إلى الله بركوعه وسجوده وتعظيمه وإجلاله، جان على صاحب الدار، وهو تخريج حسن (37) .

ويقول الآمدى فى الإحكام عن الصلاة فى الدار المغصوبة التى وقع التنظير بها فى هذا الموضوع: إن إجماع سلف الأمة وهلم جرا منعقد على الكف عن أمر الظلمة بقضاء الصلوات المؤداة فى الدور المغصوبة مع كثرة وقوع ذلك منهم ولو لم تكن صحيحة مع وجوبها عليهم لبقى الوجوب مستمرا وامتنع على الأمة عدم الإنكار عادة وهو لازم على المعتزلة وأحمد بن حنبل وأهل الظاهر والزيدية الذين يقولون: إن الصلاة فى الدار المغصوبة غير واجبة ولا صحيحة ولا يسقط بها الفرض (38) .

قد يجزىء الفعل الواحد

عن واجب ومندوب

ومن ذلك أن تحية المسجد بصلاة ركعتين عند دخوله سنة.

ويقول الحنفية: إن آداء الفرض ينوب عنها بلا نية (39) .

ونقل ابن عابدين عن الحلية أنه لو اشتغل داخل المسجد بالفريضة غير ناو للتحية قامت تلك الفريضة مقام التحية لحصول تعظيم المسجد (40) .

ومن ذلك أيضا أنه يكفى عند الحنفية غسل واحد لعيد وجمعة اجتمعا مع جنابة، وقد علق ابن عابدين على هذا بقوله: وكذا لو كان معهما كسوف واستسقاء وهذا كله إذا نوى ذلك ليحصل له ثواب الكل (41) .

مذهب المالكية:

ومثله قول المالكية: إذا نوى المكلف بالغسل رفع الجنابة والغسل المندوب للجمعة حصلا معا، وكذا لو نوى نيابة غسل الجنابة عن النفل بخلاف ما لو نوى نيابة النفل عن الجنابة فلا تكفى عن واحد منهما (42) .

مذهب الشافعية:

وقول الشافعية: إن نوى بغسله غسل الجنابة والجمعة حصلا جميعا على الصحيح (43) .

وقول الحنابلة: وإن اغتسل للجمعة والجنابة غسلا واحدا ونواهما أجزأه بغير خلاف علمناه لأنهما غسلان اجتمعا فأشبها غسل الحيض والجنابة، وإن اغتسل للجنابة ولم ينو غسل الجمعة ففيه وجهان: أحدهما لا يجزئه لقول النبى صلى الله عليه وسلم: " وإنما لكل امرئ ما نوى ".

وروى عن ابن لأبى قتادة أنه دخل عليه يوم الجمعة مغتسلا فقال: للجمعة؟ قال: لا، ولكن للجنابة، قال فأعد غسل الجمعة، والثانى يجزئه لأنه مغتسل فدخل فى عموم الحديث، يريد قوله صلى الله عليه وسلم: من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" ونحوه، ولأن المقصود التنظيف وقد حصل (44) إلى غير ذلك.

الإجزاء لا يستلزم الإكمال

قال فى حاشية كشف الأسرار للبزدوى: إن المأمور إذا أتى بالمأمور به على وجه الكراهية أو الحرمة يخرج من العهدة على القول الأصح كالحاج إذا طاف محدثا (45) .

مذهب المالكية:

ومن ذلك قول المالكية: وسن ركعتان بعد الغسل. وقبل الإحرام وأجزأ عنهما الفرض وحصل به السنة وفاته الأفضل (46) .

ويشترط المالكية فى حصى الرمى أن تكون الحصاة قدر الفولة أو النواة، ثم يقولون ولا يجزىء صغير جدا كالحمصة وكره كبير وأجزأ (47) .

ويقول الحنفية فى باب الصلاة فى الكعبة: يصح فرض ونفل فيها وفوقها وإن كره الثانى أى الصلاة فوقها (48) .

وقد أورد السيوطى الشافعى فى الأشباه والنظائر فروعا مما تجزىء فيه نية العبادة وتشريك غيرها معها مثل أن ينوى الوضوء أو الغسل، وينوى مع ذلك التبرد بالماء ومثل أن ينوى الصوم لله تعالى وللحمية أو التداوى أو أن ينوى الطواف وملازمة غريمه الذى عليه دين له لكيلا يفلت منه، أو ينوى الصلاة لله تعالى مع دفع غريمه المطالب له.

ثم قال السيوطى بعد أن بين آراء الشافعية فى صحة النية فى هذه الفروع وما صححوه من الصحة فى هذه الصور إنما هو بالنسبة إلى الإجزاء. وأما الثواب فصرح ابن الصباغ بعدم حصوله فى مسألة التبرد نقله ابن الخادم ولا شك أن مسألة الصلاة والطواف أولى بذلك (49) ، وعلى هذا كل ما جاء فى الفقه من الإجزاء مع الكراهة التنزيهية أو التحريمية أو مع حرمة الإقدام كصيام من يضر به الصوم ضررا بليغا على ما بينا من قبل أو كون الفعل خلاف الأولى أو الأفضل أو نحو ذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015