ولا يفهم أحد من مثل هذا السياق - إذا تدبره وكان ذا فكر سليم - إلا أن المراد به تسديد الله - تعالى - للعبد إدراكاً وعملاً، بحيث يكون إدراكه بسمعه وبصره بالله ولله وفي الله، وكذلك عمله بجوارحه فيتم له بذلك كمال الاستعانة والإخلاص، والمتابعة غاية التوفيق. وهذا ما فسره به السلف وهو تفسير مطابق للفظ متعين بالسياق، وليس فيه تأويل ولا صرف للكلام عن ظاهره ولله الحمد والمنة".
وجاء فيه أيضاً والشيخ يذكر ثلاثة أقسام للفناء:
"القسم الثاني: صوفي بدعي وهو: الفناء عن شهود السوي أي عن شهود ما سوى الله تعالى، وذلك أنه بما ورد على قلبه من التعلق بالله عز وجل وضعفه عن تحمل هذا الوارد ومقاومته، غاب عن قلبه كل ما سوى الله عز وجل ففني بهذه الغيبوبة عن شهود ما سواه، ففني بالمعبود عن العبادة وبالمذكور عن الذكر، حتى صار لا يدري أهو في عبادة وذكر أم لا، لأنه غائب عن ذلك بالمعبود والمذكور لقوة سيطرة الوارد على قلبه.
وهذا فناء يحصل لبعض أرباب السلوك، وهو فناء ناقص من وجوده:
الأول: أنه دليل على ضعف قلب الفاني، وأنه لم يستطع الجمع بين شهود المعبود والعبادة، والأمر والمأمور به، وأعتقد أنه إذا شاهد العبادة والأمر اشتغل به عن المعبود والآمر، بل إذا ذكر العبادة والذكر كان ذلك اشتغالاً عن المعبود والمذكور.
الثاني: أنه يصل بصاحبه إلى حال تشبه حال المجانين والسكارى حتى إنه ليصدر عنه من الشطحات القولية والفعلية المخالفة للشرع ما يعلم هو وغيره غلطه فيها، كقول بعضهم في هذه الحال: "سبحاني .. سبحاني أنا الله. ما في الجبة إلا الله أنصب خيمتي على جهنم" ونحو ذلك من الهذيان والشطح.
الثالث: أن هذا الفناء لم يقع من المخلصين الكمل من عباد الله، فلم يحصل للرسل، ولا للأنبياء، ولا للصديقين والشهداء. فهذا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رأى ليلة المعراج من آيات الله اليقينية ما لم يقع لأحد من البشر وفي هذه الحال كان، صلى الله عليه وسلم، على غاية من الثبات في قواه الظاهرة والباطنة كما قال الله تعالى عن قواه الظاهرة: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]. وقال عن قواه الباطنة: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] وهاهم الخلفاء الراشدون أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم أفضل البشر بعد الأنبياء وسادات أوليائهم لم يقع لهم مثل هذا الفناء، وهاهم سائر الصحابة مع علو مقامهم وكمال أحوالهم لم يقع لهم مثل هذا الفناء.
وإنما حدث هذا في عصر التابعين فوقع منه من بعض العباد والنساك ما وقع، فكان منهم من يصرخ، ومنهم من يصعق، ومنهم من يموت وعرف هذا كثيراً في بعض مشايخ الصوفية.
ومن جعل هذا نهاية السالكين فقد ضل ضلالاً مبيناً، ومن جعله من لوازم السير إلى الله فقد أخطأ.
وحقيقته: أنه من العوارض التي تعرض لبعض السالكين لقوة الوارد على قلوبهم وضعفها عن مقاومته، وعن الجمع بين شهود العبادة والمعبود ونحو ذلك.
القسم الثالث: فناء إلحادي كفري وهو: الفناء عن وجود السوي، أي عن وجود ما سوى الله عز وجل، بحيث يرى أن الخالق عين المخلوق، وأن الموجود عين الموجد، وليس ثمة رب ومربوب، وخالق ومخلوق، وعابد ومعبود وآمر ومأمور، بل الكل شيء واحد وعين واحدة.
وهذا فناء أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود كابن عربي، والتلمساني وابن سبعين، والقونوي ونحوهم ... وهؤلاء أكفر من النصارى من وجهين:
أحدهما: أن هؤلاء جعلوا الرب الخالق عين المربوب المخلوق وأولئك النصارى جعلوا الرب متحداً بعبده الذي اصطفاه بعد أن كانا غير متحدين.
الثاني: أن هؤلاء جعلوا اتحاد الرب سارياً في كل شيء، في الكلاب والخنازير والأقذار والأوساخ. وأولئك النصارى خصوه بمن عظموه كالمسيح، وتصور هذا القول كاف في رده، إذ مقتضاه: أن الرب والعبد شيء واحد، والآكل والمأكول شيء واحد، والناكح والمنكوح شيء واحد، والخصم والقاضي شيء واحد، والمشهود له وعليه والشاهد شيء واحد، وهذا غاية ما يكون من السفه والضلال.
قال الشيخ رحمه الله: ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه ويدعي أنه الله رب العالمين: فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطوءها الذي تفترشه.
¤الديوبندية لأبي أسامة سيد طالب الرحمن- ص 43 - 48