وكتب صوفي قديم آخر، وهو أبو الحسن علي الهجويري المتوفى قريبا سنة 465 هـ قصة غريبة في العزلة والتجرد نقلا عن إبراهيم الخواص أنه قال: (وصلت إلى قرية بقصد زيارة عظيم كان هنالك، ولما ذهبت إلى داره رأيت بيتا نظيفا مثل معبد الأولياء، وقد جعل في زاويتين من البيت محرابين، وجلس في أحدهما شيخ، وفي الآخر عجوز نظيفة وضيئة، وقد ضعف كلاهما من كثرة العبادة، فأظهر السرور بقدومي، وبقيت هنالك ثلاثة أيام، ولما أردت العودة سألت الشيخ: من تكون لك تلك العفيفة؟ قال: هي من ناحية ابنه عمي، ومن ناحية أخرى زوجي، فقلت: رأيتكما خلال هذه الأيام الثلاثة كالغربيين تماما في الصحبة، قال: نعم، منذ خمسة وستين عاما ونحن كذلك فسألته عن سبب ذلك، فقال: إعلم إننا كنا عاشقين لأحدنا الآخر في الصغر، ولم يكن أبوها يعطيها لي لأن محبتنا صارت معروفة، فتحملت ذلك حتى توفي أبوها، وكان والدي عمها، فزوجها لي، فلما كانت الليلة الأولى من تلاقينا قالت لي: أنت تعلم آية نعمة أنعمها الله علينا إذ أوصل كلامنا إلى الآخر، وأفرغ قلبينا من القيود والآفات السيئة، فقلت: نعم، قالت: فلنمنع أنفسنا الليلة عن هوى النفس، وندس على مرادنا، ونعبد الله شكراً على هذه النعمة، فقلت: هذا صواب، وقالت هذا نفسه في الليلة التالية. وقلت أنا في الليلة الثالثة: لقد أدينا الشكر ليلتين من أجلك، فلنقض ليلتين أيضا في العبادة من أجلي. وقد تمت الآن خمسة وستون عاما لم يمس أحدنا الآخر، ونحن نقضي كل العمر في شكر النعمة) (?).
وقال بعد نقلها ونقل أشياء أخرى: (وفي الجملة: إن أول فتنة قدرت على آدم في الجنة كان أصلها امرأة. وأول فتنة ظهرت في الدنيا - أي فتنة هابيل وقابيل - كانت أيضا بسبب امرأة. وحين أراد الله تبارك وتعالى أن يعذب إثنين من الملائكة جعل سبب ذلك امرأة. وهن جميعا إلى يومنا هذا سبب جميع الفتن الدينية والدنيوية، لقوله عليه السلام: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) (?)، فإذا كانت فتنتهن بهذا القدر في الظاهر، فكيف تكون في الباطن؟
وأنا علي بن عثمان الجلابي، من بعد أن حفظني الحق تعالى من آفة الزواج أحد عشر عاما، قدر أن وقعت في الفتنة، وصار ظاهري وباطني أسير الصفة التي كانوا عليها معي، دون أن تكون هنالك رؤية، وقد استغرقت في ذلك عاما، بحيث كان يفسد على ديني، إلى أن بعث الحق تعالى بكمال فضله وتمام لطفه عصمته لاستقبال قلبي المسكين، ومنَّ عليّ بالخلاص برحمته، والحمد لله على جزيل نعمائه.
وفي الجملة فإن قاعدة هذا الطريق وضعت على التجريد، وعندما جاء التزويج اختلف أمرهم، ولا يوجد أي عساكر الشهوة إلا ويمكن إخماد ناره بالاجتهاد، لأن الآفة التي تنشأ منك تكون آلة دفعها معك أيضا، ولا يلزم الغير حتى تزول عنك تلك الصفة.