والحق أن المتصوفة ليس لهم مستند في تعلقهم بأساس تصوفهم سواء كان ذلك التعلق بالصحابة من أهل الصفة، أو بالرسول صلى الله عليه وسلم في خلوته في غار حراء، ومن زعم أن بدايات التصوف كان الرسول صلى الله عليه وسلم أو أهل الصفة فلا شك في خطئه. وإذا كان المتصوفة فيما يدعون يحبون الفقر والخرقة (?)، والانزواء في الزوايا والأربطة، فإن الثابت المتواتر أن أهل الصفة في مجملهم كانوا كثيراً ما يشكون حالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمل أن يساعدهم على حياة طيبة في الدنيا تكون عوناً لهم إلى الآخرة، وقد أخبر الله عنهم أنهم يتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون.
وقد تحقق لمعظمهم بعد ذلك مال وافر، عملاً منهم بقول الله تعالى وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، واجتمعت لبعضهم ألوان الأطعمة المباحة ولم يزهدوا عن الدنيا نهائياً، لأنهم يعلمون أن ذلك لا ينافي الزهد، بينما معظم المتصوفة إنما يريد بإظهار ذلك الزهد وتلك الرهبانية الوصول إلى ما في أيدي الناس واستعباد أذهانهم وأفكارهم، لا زهداً حقيقياً عن الدنيا في أكثر أحوالهم؛ حيث وجد لبعضهم بعد موتهم مدخرات كثيرة مما يتنافى ودعوى الزهد؛ لأن الزهد الحقيقي هو ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، فلا رهبانية ولا تواكل ولا تحريم لما أحله الله من الطيبات، ولا استحلال ما لم يرد به الشرع، وهذا هو الزهد لا إظهار الفقر والعوز كما يراه غلاة المتصوفة.
إن تلك الصلة بين الصوفية وأهل الصفة التي يزعمها السهروردي والمنوفي محض خيال؛ ذلك أن أهل الصفة ما كانوا يحبون الفقر ولا يحبون الانفراد والعزلة عن الناس، وكيف يحبون العزلة والانفراد وهم في أكثر أماكن تجمع الناس؟! وأيضاً أكان مكثهم في الصفة بمحض رغبتهم أم كانت حالة طارئة أملتها عليهم الظروف المعيشية؟.ذلك أنه لا يخفى على طلاب العلم – أن أهل الصفة كانوا من الفقراء الذين لا يجدون مأوى غير المسجد، في الوقت الذي كانوا يبحثون فيه بكل جد من أجل الوصول إلى حال اليسار والغنى، خصوصاً وهم يتلون قول الله تعالى وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]، كما يسمعون قول المصطفى صلى الله عليه وسلم ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير)) (?) وقوله أيضاً: ((اليد العليا خير من اليد السفلى)) (?) ".
فما كان أحدهم يحمل الزنبيل على ظهره ويطوف بالبيوت في طلب رزقه متكاسلاً عن العمل، متكلاً على ما في أيدي الناس أعطوه أم منعوه، كما هي حال كثير من المتصوفة بعد أن فسدت فطرهم واختلت مفاهيمهم.
حين صاروا كما مدحهم السهروردي بقوله:"واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة وينفردون أخرى، أسوة بأهل الصفة، تاركين للأسباب متبتلين إلى رب الأرباب" (?).
وأما زعم المنوفي أن الله اختار أهل الصفة ليكونوا كذلك وهم أيضاً قد اختاروا الفقر والمسكنة – فهو زعم باطل يكذبه الله في القرآن الكريم وتكذبه السنة النبوية والتاريخ. لقد كان من أهل الصفة أميراً ومن أصبح غنياً ذا ثراء كبير وفير، ومن أصبح قائد جيوش جرارة، وهم مع ذلك في قمة الزهد والخشوع لربهم.
¤فرق معاصرة لغالب عواجي 3/ 869 - 873