ثانياً: أن ما قرره أبو الحسن الأشعري في (الإبانة) و (مقالات الإسلاميين) و (رسالة إلى أهل الثغر) من مسائل المعتقد ومنه صفات الله تعالى موافق لمعتقد السلف، ومخالف لما عليه الأشاعرة؛ إذ أنه قد أثبت الصفات لله تعالى على ظاهرها، ومنع من تأويلها، وعد من تأولها مبتدعة وجهمية، كما سبق نقل كثير من كلامه في ثنايا هذا الكتاب، وهذا يمنع تماماً أن يكون قد قرر فيه التفويض الذي يزعمه الأشعرية، بل إنه صرح بأن الصفات حقيقة، وأوجب الأخذ بالظاهر، وبين أن آيات الصفات مفهومة معلومة، ورد على من تأولها وأخرجها عن حقيقتها. وهذا يؤكد أنها تمثل مرحلة مغايرة عن مرحلته الكلابية.
ومما يؤكد هذا: قول بعض الطاعنين في أبي الحسن الأشعري أنه إما ألف (الإبانة) وقاية لأهل السنة ... !!
فقد قال أبو علي الأهوازي: "وللأشعري كتاب في السنة قد جعله أصحابه وقاية لهم من أهل السنة، يتولون به العوام من أصحابنا، سماه كتاب (الإبانة) صنفه ببغداد لما دخلها، فلم يقبل ذلك منه الحنابلة وهجروه.
وسمعت أبا عبدالله الحمراني يقول: لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري، فجعل يقول: "رددت على الجبائي، وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى وعلى المجوس، فقلت وقالوا"، وأكثر الكلام في ذلك، فما سكت، قال البربهاري: "ما أدري مما قلت قليلاً ولا كثيراً، ما نعرف إلا ما قال أبو عبدالله أحمد بن حنبل".فخرج من عنده وصنف كتاب (الإبانة)، فلم يقبلوه منه، ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها" (?) اهـ.
وظاهر هذا يدل على أن كتاب (الإبانة) ليس على طريقة الأشاعرة، ولذلك ظن بعض الطاعنين فيه أنه إما ألفه إرضاءاً لهم، ووقاية لنفسه من إنكارهم عليه، وهذا الظن وإن لم يكن صحيحاً، إلا أنه يثبت أن منهج الأشعري في (الإبانة) موافق لأهل السنة، ومخالف للكلابية والأشعرية، وهو بيت القصيد. والعجيب هنا أن الكوثري على شدة تعصبه وحقده على السنة والجماعة، وعلى شدة مجازفاته وافتراءاته الكثيرة، اعترف بأن كتاب (الإبانة) للأشعري ينقض مذهب الاشاعرة، ولهذا ادعى أن الأشعري ألفه محاباة لأهل السنة ولإمامهم البربهاري حينئذ. فقال في مقدمته لكتاب (الإنصاف) للباقلاني: "وأما (الإبانة) التي كان قدمها إلى البربهاري في أوائل انتقاله إلى معتقد السنة، فتحتوي على بعض آراء غير مبرهنة، جارى فيها النقلة ليتدرج بهم إلى الحق، لكنه لم ينفع ذلك – على تلاعب الأقلام فيها -، فاستقر رأيه – بعد عهدي الإفراط والتفريط – على ما نقله هؤلاء عنه من الآراء المعتدلة على خلاف مزاعم ابن كثير" (?) اهـ.
وقال الإمام القاضي كمال الدين أبو حامد محمد بن درباس المصري الشافعي (659هـ) في رسالته (الذب عن أبي الحسن الأشعري): "فاعلموا معشر الإخوان ... بأن كتاب (الإبانة عن أصول الديانة) الذي ألفه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده، وبما كان يدين الله سبحانه وتعالى بعد رجوعه عن الاعتزال بمن الله ولطفه وكل مقالة تنسب إليه الآن مما يخالف ما فيه، فقد رجع عنها، وتبرأ إلى الله سبحانه وتعالى منها.