ويقول الإمام الأوزاعي: "بلغني أن الله إذا أراد بقوم شرا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل".بل إن ذلك كان وعي السلف الصالح من أئمة الإسلام حين نهوا عن الخوض في الكلام وامتنعوا عن المشاركة فيه كالشافعي وأحمد وغيرهما – ممن ذكرنا طرفا منهم في مقدمة بحثنا هذا – لما عرفوا أن ذلك الأمر إلى جانب ابتداعه فهو صارف للمسلمين عما هو نافع لهم في دينهم ودنياهم على حد سواء، بل تلك هي عبرة اندفاع الصحابة رضوان الله عليهم في الفتح والتقدم لما أعرضوا عما نهوا عنه مما لا طائل تحته، وبعد أن وعوا الحكمة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال أمر هذه الأمة موائما أو مقاربا ما لم يتكلموا في الولدان والقدر)) (?).

ثم لنستمع إلى شهادة أحد أكابر علماء الغرب القلائل الذين وضعوا أيديهم على الداء البشري وهو الدكتور الكسيس كاريل حيث يقول: "مهما كانت براعة المذاهب "النظرية" التي يبتدعها العقل، فإنها لا تعدو أن تكون نظرات جزئية، وأشباحا باهتة للواقع. وليس هناك مذهب فلسفي قط استطاع أن يحظى بقبول جميع الناس، وقوانين الحياة التي تستنبط من مثل تلك المبادئ ليست إلا فروضا وإذا أردنا تجنب الوقوع في الخطأ وجب علينا أن نستخلص قوانين الحياة من ملاحظة الحياة نفسها" (?).

ويبين كاريل بعدها مسار العقل الإنساني في اختياره للمباحث النظرية السهلة وما يجلبه ذلك من ضرر فيقول: "كان من الممكن للعلم أن يكفل لنا نجاح حياتنا الفردية والاجتماعية ولكننا فضلنا نتائج التفكير الفلسفي الذي ساد في القرن الثامن عشر على نتائج العلم الواضحة، فارتضينا أن نأسن وسط "المعاني المجردة" ولعل كسل الإنسان الطبيعي هو الذي دفعه إلى اختيار المعاني المجردة الهينة. وذلك لأن الملاحظة أشق من الاستدلال، وهذا هو السبب في أن البشرية كانت دائما تميل إلى اللعب بضروب التجريد" (?).ثم يؤكد على أن الفلسفة ومناهجها هي التي تزري بالمناهج الأصلية للبشرية في العلم والعمل: "ولا شك أن فلاسفة عصر النور – أي عصر النهضة – هم الذين مكنوا لعبادة الحرية بصورة عمياء في أوربا وأمريكا، فراحوا باسم العقل يزرون بجميع النظم التقليدية، وبذلك وسموا هذه القيود في أعين الناس بميسم الشناعة، وحينئذ بدأت المرحلة الأخيرة من الصراع ضد القواعد التي رضي أسلافنا بأن تهيمن على سلوكهم" (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015