الثاني: أن يكون اللطف مقارناً للتكليف؛ وهذا القسم أيضاً لا يجب، لأن أصل التكليف إذا كان لا يجب والله متفضل به ابتداء، فما هو تابع له أولى. الثالث: أن يكون اللطف متأخراً عن التكليف، وهذا القسم واجب، سواء كان لطفاً في فريضة أو نافلة خلاف الواحد منا؛ وعلى ذلك فالذي يجب من أقسام اللطف القسم الثالث؛ وهو ما إذا كان اللطف متأخراً عن التكليف؛ سواء كان لطفاً في فريضة أو نافلة، أما إذا كان سابقاً للتكليف أو مقارناً له، فلا يجب. كما نستنتج أن هذا الرأي لم يختلف فيه المعتزلة؛ إذ أن من كان من مشايخهم له رأي خاص كبشر بن المعتمر الذي يرى: عدم وجوب اللطف (?)، وجعفر بن حرب الذي يرى: وجوبه في حالة، وعدم وجوبه في أخرى. قد رجعوا عن أقوالهم إلى قول عامة المعتزلة. وإذاً فالقول بوجوب اللطف قد اتفقت عليه المعتزلة، وقيده القاضي باللطف المتأخر عن التكليف (?).

الفرع الثاني: شبهة المعتزلة التي يتمسكون بها في قولهم بوجوب اللطف على الله، ومناقشتها:

عرفنا آنفاً أن المعتزلة ترى وجوب اللطف على الله، والآن لنعرف ما هي شبهتهم التي يتمسكون بها مع المناقشة.

الشبهة: يقول القاضي: "والدليل على صحة ما اخترناه من المذهب هو أنه تعالى إذا كلف المكلف وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب، وعلم أن في مقدوره ما لو فعله به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح، فلابد من أن يفعل به ذلك الفعل، وإلا عاد بالنقض، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتخذه وعلم من حاله أنه لا يجيبه إلا إذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره، فإنه يجب عليه أن يبعث إليه، حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه، كذا هنا" (?).

المناقشة:

يقال لهم: ما مرادكم بهذا اللطف الذي إذا فعله الله بالعبد اختار عنده الإيمان على الكفر؟ "إن كنتم تريدون به البيان العام والهدى العام والتمكين من الطاعة وتهيئة أسبابها، فهذا حاصل لكل كافر بلغته الحجة، وتمكن من الإيمان (?)؛ لكنه لم يلزم منه إيمانهم؛ بل وجدناهم قد بلغتهم الحجة، ومع ذلك لم يؤمنوا. فعلى هذا: تفسيركم اللطف بهذا المعنى لا يلزم منه الإيمان حتى يقال بوجوبه أو عدم وجوبه. وإن كنتم تريدون باللطف الذي إذا فعله سبحانه وتعالى بعبده أصبح مؤمناً، وإذا لم يفعله لم يكن مؤمناً؛ وهو التوفيق إلى فعل ما يرضيه؛ وذلك بأن يجعله مريداً له محباً له مؤثراً له على غيره، ويجعله مبغضاً كل ما يسخطه وكاره له (?)، كما قال تعالى: ... وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7]. فهذا اللطف قد فعله الله بمن شاء من عباده تفضلاً لا واجباً، بدليل قوله تعالى: وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء: 83]. وبدليل قوله تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا .... [النور: 21]. ولأنه لو كان واجباً لاستلزم أن يكون الناس كلهم مؤمنين فلما لم يكن ذلك دل على أنه ليس بواجب. ولأن الواجب على الله محال؛ لاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئاً (?)، ثم إن قياسكم الغائب على الشاهد مع الفارق، لأن المخلوق يجوز في حقه الوجوب بعكس الخالق؛ فلا. وإذا فالقياس باطل؛ وبذلك يبطل قولكم أنه يجب على الله أن يفعل بعبده اللطف الذي يختار عنده الإيمان على الكفر؛ وعليه فتبطل شبهتكم من أساسها. والله أعلم.

¤المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 193

طور بواسطة نورين ميديا © 2015