وجه الاستدلال: إن الله نفى التفاوت عن خلقه. فلا يخلو: إما أن يكون المراد بالتفاوت من جهة الخلقة أو من جهة الحكمة، ولا يجوز أن يكون المراد به التفاوت من جهة الخلقة؛ لأن في خلقه المخلوقات من التفاوت ما لا يخفى، فليس إلا أن المراد به التفاوت من جهة الحكمة على ما قلناه، وإذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة الله تعالى لاشتمالها على التفاوت وغيره" (?).
مناقشة الشبهة:
يقال لهم: إن استدلالكم بالآية ناتج عن سوء فهم؛ وذلك لأن المقصود بالتفاوت في الآية التفاوت في الخلقة. يقول القرطبي – عند تفسير هذه الآية -: والمراد "بخلق الرحمن": السماوات، خاصة، أي: ما ترى في خلق السماوات من عيب، وأصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئاً فيقع الخلل لقلة استوائها يدل عليه قول ابن عباس "من تفرق" (?).ويقول ابن جزي: "قوله من "تفاوت" أي: من قلة تناسب وخروج عن الإتقان، والمعنى أن خلق السماوات في غاية الإتقان، وتخصيص الآية بخلق السماوات لورودها بعد قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا .... الآية [الملك: 3] " (?).
وإذا ثبت أن المقصود بالتفاوت في الآية، التفاوت من جهة الخلقة؛ بطل قولكم "ولا يجوز أن يكون المراد به التفاوت من جهة الخلقة". وعليه فيبطل استدلالكم بالآية. وأيضاً: فإن أول الآية حجة عليكم، وهو قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ... [الملك: 2]، وبين الموت والحياة تفاوت؛ وهو خالق الجميع، لا خالق لذلك غيره؛ فكذلك كفر الكافرين، وإيمان المؤمنين، وإن كان بينهما تفاوت في الحكم، فليس بينهما تفاوت في الإيجاد والاختراع، وإحكام الخلق، فصح أن الآية حجة عليهم لا لهم" (?). وبهذا يظهر بطلان استدلال المعتزلة بهذه الآية. والله أعلم.
الشبهة الثانية:
قال تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ... الآية [النمل: 88].
وجه الاستدلال بالآية: يقول القاضي عبدالجبار – بعد أن أورد هذه الآية للاستدلال على أن العباد يخلقون افعالهم: " ... إن الله – سبحانه وتعالى – بين أن أفعاله كلها متقنة، والإتقان يتضمن الإحكام والحسن جميعاً، حتى لو كان محكماً، ولا يكون حسناً لكان لا يوصف بالإتقان، ألا ترى أن أحدنا لو تكلم بكلام فصيح يشتمل على الفحش والخنا، فإنه وإن وصف بالإحكام لا يوصف بالإتقان؛ ثم قال: إذا ثبت هذا ومعلوم أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود والتنصر والتمجس وليس شيئاً من ذلك متقناً؛ فلا يجوز أن يكون الله تعالى خالقاً لها" (?).
مناقشة الشبهة:
إن هذه الشبهة باطلة، لما يلي: أولاً: أن الإتقان لا يحصل إلا في المركبات، فيمتنع وصف الأعراض بها (?). وإذا لم توصف الأعراض بالإتقان؛ بطل الاستدلال بالآية، لأن الاستدلال بها ينبني على أن الإتقان يكون في الأعراض. ثانياً: يقول ابن حزم: "إن هذه الآية حجة عليهم، لا لهم؛ لأن الله تعالى أخبر أنه بصنعه أتقن كل شيء، وهذا على عمومه وظاهره، فالله تعالى صانع كل شيء، وإتقانه له أن خلقه جوهراً أو عرضاً جاريين على رتبة واحدة أبداً، وهذا عين الإتقان" (?).
وبهذا يظهر بطلان الاستدلال بهذه الآية، على أن العباد هم الخالقون لأفعالهم والله أعلم.