عرفنا - فيما سبق - عند عرضنا لرأي المعتزلة في أفعال الله، أنهم يرون أن الله تعالى لا يفعل القبيح، كالظلم؛ بل أفعاله كلها حسنة، وأنه لا يخل بما هو واجب عليه، وأنهم يرتبون على قولهم: إن الله لا يفعل القبيح: القول؛ بأن العبد هو الخالق لأفعاله، لأن منها ما هو الحسن، ومنها القبيح، فلو كان الله خالقها، لكان فاعلاً للقبيح. ونقول: أما قولكم: أن الله لا يفعل القبيح، بل أفعاله كلها حسنة، فهذا نوافقكم عليه. يقول ابن القيم: " ... وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره وخير كله، ولهذا نزه سبحانه نفسه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه ... فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها؛ وذلك خير كله، والشر: وضع الشيء في غير محله، فإذا وضع في محله لم يكن شراً، فعلم أن الشر ليس إليه، وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك، فإن منها: القدوس ... والقدوس: هو المنزه عن كل شر ونقص وعيب، كما قاله أهل التفسير ... وهو قول أهل اللغة ... " (?).ومما يدل على أنه تعالى لا يفعل القبيح أنه نزه نفسه عن الظلم. قال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا [طه: 112]. والظلم هنا: أن يحمل عليه من سيئات غيره، والهضم: أن ينقص من حسناته. وقال تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [ق: 29]. ففي هذه الآية نفي الظلم عن نفسه؛ مما يدل على أنه لا يفعل القبيح، بل أفعاله كلها حسنة (?).
اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ .... [الرعد: 16]. وقال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96]. وسيأتي الكلام على هذه المسألة - إن شاء الله - عند الكلام على رأي المعتزلة في أفعال العباد، ومناقشتهم. وأما قولكم: وأنه تعالى لا يخل بما واجب عليه، فنقول: ما مقصودكم بهذا الواجب على الله؟ هل هو إيجاب من العباد على الله؟ أم إيجاب من الله على نفسه؟؛ إن كان الأول: فهذا لا نوافقكم عليه، لأن العباد لا يوجبون على الله شيئاً؛ إذ أنه يلزم أن يكون هناك موجباً فوق الله أوجب عليه شيئاً، ولا موجب عليه سبحانه وتعالى (?). وأيضاً: فإنه يلزم من القول بأن العباد يوجبون على الله يلزم منه أن لا يكون سبحانه وتعالى فاعلاً مختاراً، وهو باطل بالأدلة الدالة على أن له تعالى التصرف المطلق فيما شاء من عباده. المختار بقدرته ومشيئته في أفعاله الحميدة، فثبوت حمده دليل على أنه مختار في أفعاله سبحانه وتعالى وأيضاً فإنه ثبوت ربوبيته تعالى يقتضي فعله بمشيئته واختياره ... وأيضاً: فإن ثبوت ملكه: دليل على أنه فاعل مختار؛ إذ أن حصول ملك لمن لا اختيار له ولا فعل له ولا مشيئة غير معقول. وأيضاً: فإنه كونه تعالى مستعاناً: دليل على اختياره، لأن الاستعانة بمن لا اختيار له محال (?)، وعلى ذلك: فالله سبحانه وتعالى فاعل مختار، وإذا كان كذلك بطل قولكم: إن العباد يوجبون عليه تعالى.
وإن كان مقصودكم بالوجوب أنه واجب عليه بحكم ما أوجبه على نفسه، فهذا نوافقكم فيه، لكن لا يلزم منه أن لا يكون تعالى مختاراً لما ذكرناه آنفاً من اللوازم الباطلة، ولأن من أوجب على نفسه شيئاً يعتبر متفضلاً بما أوجب، والمتفضل مختار بما تفضل به. يقول ابن القيم - رحمه الله -: "فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي افترقت فيه الفرق، والناس فيه ثلاث فرق: فرقة رأت أن العبد أقل وأعجز من أن يوجب على ربه حقاً، فقالت: لا يجب على الله شيء البتة، وأنكرت وجوب ما أوجبه الله على نفسه. وفرقة رأت: أنه سبحانه أوجب على نفسه أموراً لعبده، فظنت أن العبد أوجبها عليه بأعماله .. والفرقة الثالثة: أهل الهدى والصواب: قالت: لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاة ولا فلاحاً، ولا يدخل أحداً عمله الجنة أبداً .. والله تعالى بفضله وكرمه أكد إحسانه وجوده بأن أوجب لعبده عليه حقاً بمقتضى الوعد، فإن وعد الكريم إيجاب، ولو بعسي ولعل، ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنه -: عسى من الله واجب (?) ..
¤المعتزلة وأصولهم الخمسة لعواد المعتق - ص 153