وأما الذي يدل على أنه تعالى عالم باستغنائه عن القبيح، فهو داخل في الدلالة الأولى التي تنبني على أنه تعالى عالم لذاته. وأما الذي يدل على أن من كان هذا حاله لا يختار القبيح بوجه من الوجوه، هو أنا نعلم ضرورة في الشاهد أن أحدنا إذ كان عالماً بقبح القبيح مستغنياً عنه عالماً باستغنائه عنه، فإنه لا يختار القبيح البتة، وإنما لا يختاره لعلمه بقبحه ولغناه عنه ... يبين ما ذكر ويوضحه أن أحدنا لو خير بين الصدق والكذب، وكان النفع في أحدهما كالنفع في الآخر، وقيل له: إن كذبت أعطيناك درهماً، وإن صدقت أعطيناك درهماً، وهو عالم بقبح الكذب مستغن عنه عالم باستغنائه عنه، فإنه لا يختار الكذب على الصدق ... لعلمه بقبحه، وبغناه عنه. وهذه العلة بعينها قائمة في حق القديم تعالى، فيجب أن لا يختاره البتة، لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهداً وغائباً (?).أما الأدلة على أنه تعالى لا يريد القبيح، فمنها ما هو نقلي. يقول القاضي عبدالجبار: "إن كتاب الله المحكم يوافق ما ذكرناه من القول بالتوحيد والعدل" (?). ثم يورد القاضي بعض الآيات مستدلاً بها على أن الله لا يريد القبيح، كقوله تعالى: وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [البقرة: 205]. وقوله تعالى: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ .... الآية [الزمر: 7]. ثم يقول: "هذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يريد الفساد، ولا يحبه، سواء كان من جهته أو من جهة غيره ... " (?).ومن الآيات التي استدل بها القاضي - أيضاً - على أن الله لا يريد القبيح قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ [غافر: 31]. ويعلق القاضي على هذه الآية فيقول: إن قوله ظُلْمًا نكرة، والنكرة في النفي تعم، فظاهر الآية يقتضي أنه تعالى لا يريد شيئاً مما وقع عليه اسم الظلم (?).ومنها؛ ما هو عقلي: يقول القاضي: "إن إرادة القبيح قبيحة"؛ ويعلل ذلك بقوله: "وإن إرادة القبيح إنما تقبح لكونها إرادة للقبيح بدليل أنها متى عرف كونها على هذه الصفة عرف قبحها" (?).ويقول في موضع آخر: "وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريداً للمعاصي، هو أنه تعالى لو كان مريداً لها لوجب أن يكون حاصلاً على صفة من صفات النقص؛ وذلك لا يجوز على الله تعالى، وبهذه الطريقة نفينا الجهل عن الله تعالى" (?). ويؤيد القاضي هذه الدلالة بقياس الغائب على الشاهد، فيقول: "فإن قيل: ولم قلتم إذا كان مريداً للمعاصي، وجب أن يكون حاصلاً على صفة من صفات النقص؟ قلنا: الدليل على ذلك الشاهد، فإن أحدنا متى كان كذلك، كان حاصلاً على صفة من صفات النقص، وإنما وجب ذلك لكونه مريداً للقبيح، فيجب مثله من الله تعالى" (?).

والمعتزلة - كما رأينا - تقرر أنه تعالى لا يفعل القبيح، ولا يريده، وأن أفعاله كلها لابد أن تكون حسنة، وأنه لا يخل بما هو واجب عليه؛ وعلى ذلك فكل فعل يفعله سبحانه وتعالى إنما هو حسن. يقول ابن منتويه: "يجب إذا عرفنا في فعل من الأفعال أنه فعله - عز وجل - أن تقضي بحسنه، ونعرف أن فيه وجهاً من وجوه الحسن، إما على جملة أو تفصيل، وإذا انتهينا إلى فعل قبيح، فيجب أن نقتضى بأنه ليس من جهته" (?).وقد ترتب على مبالغة المعتزلة في نفي القبيح عن الله أن نفوا أن يكون خالقاً لأفعال العباد (?).

هذا هو رأي المعتزلة في أفعال الله.

المناقشة:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015