المبحث الثامن: رأي المعتزلة في بعض مسائل التشبيه والتجسيم

رأي المعتزلة في الجسمية بالنسبة لله، ومناقشتهم:

قبل بيان رأي المعتزلة في الجسمية؛ لابد أن نعرف ما هو الجسم عند المعتزلة.

حقيقة الجسم: عرف القاضي الجسم، فقال: "اعلم أن الجسم هو ما يكون عريضاً عميقاً، ولا يحصل فيه الطول والعرض والعمق؛ إلا إذا تركب من ثمانية أجزاء، بأن يحصل جزءان في قبالة الناظر، ويسمى طولاً وخطاً، ويحصل جزءان آخران عن يمينه ويساره منضمان إليهما، فيحصل العرض، ويسمى سطحاً أو صفحة، ثم يحصل فوقها أربعة أجزاء مثلها، فيحصل العمق، وتسمى الثمانية أجزاء المركبة على هذا الوجه جسماً" (?).ويعللون عدم صحة إطلاق لفظ الجسم على الله "أنه تعالى لو كان جسماً، لكان محدثاً، وقد ثبت قدمه، لأن الأجسام كلها يستحيل انفكاكها من الحوادث التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون؛ وما لا ينفك عن المحدث يجب حدوثه لا محالة" (?).

المناقشة:

نقول: يا معشر المعتزلة، ما مقصودكم من نفي الجسم عن الله، هل هو التقيد بكتاب الله، وسنة رسوله، فتنفون الجسم لأن النقل ورد بنفيهما، أم تقصدون تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات؟!.إن كان الأول؛ فإنه لم يرد في الكتاب والسنة ما يشير إلى لفظ الجسم بنفي أو إثبات؛ وعلى ذلك يجب عليكم السكوت عما سكت عنه النقل. يقول ابن القيم: "واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحي إثباتاً، فيكون له الإثبات، ولا نفياً، فيكون له النفي" (?).

وإن كان مقصودكم من نفي الجسم تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات، فنحن نوافقكم على أنه يجب تنزيه الله عن مشابهة ما سواه، لكن شريطة التقيد بالكتاب والسنة؛ وبما أنهما لم يردا بنفي الجسم ولا إثباته، فإنه يجب السكوت عما سكتا عنه. والله أعلم.

الفرع الثاني: تأويل المعتزلة للاستواء والمجيء والوجه واليد والعين والساق، ومناقشتهم:

لقد رتب المعتزلة على نفي الجسمية عن الله تعالى نفي كل ما يرونه يتضمنها، وأولوا ما ورد في ذلك من نصوص؛ وذلك كالاستواء والمجيء والوجه واليد والعين والساق. وسنعرض – إن شاء الله – تأويلهم لهم ثم نرد عليهم، فنقول وبالله التوفيق:

أولاً: الاستواء:

ورد في القرآن الكريم آيات تؤكد أن الله تعالى مستو على عرشه، كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]. وقد رفض المعتزلة هذا المعنى الظاهر الذي تشير إليه الآية؛ لذا أولوا: الاستواء بالاستيلاء والقهر والغلبة.

يقول القاضي – بعد سياقه الآية -: "والاستواء ههنا بمعنى الاستيلاء والقهر والغلبة؛ وذلك مشهور في اللغة. قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق ... " (?)

المناقشة:

إن تأويل المعتزلة للاستواء بالاستيلاء باطل من وجوه، منها:

الأول: أن هذا التأويل يوجب أن يكون تعالى لم يكن مستولياً على العرش قبل استوائه عليه؛ وهذا باطل، فما يؤدي إليه مثله. الثاني: أن هذا التأويل لو كان صحيحاً، لما كان العرش أولى بالاستيلاء من سائر المخلوقات، ولجاز لنا أن نقول: الرحمن على الأرض استوى؛ لأنه تعالى مستول عليها، وعلى كل ما خلق، وهذا لا يقبله أحد؛ فدل على بطلانه (?).

الثالث: وأما استشهادكم بقول الشاعر: "قد استوى بشر على العراق .. ".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015