2 - لو صح أن هؤلاء الصحابة المعتزلين للفتنة كانوا أسلافا للمعتزلة لوجب اتفاقهم معهم في أصول مذهبهم، فلما لم يتفقوا دل على بطلان هذا الرأي، فمثلا: مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة واجب بالسيف فما دونه، كيف قدروا على ذلك؟ فلو كان الصحابة المعتزلون للفتنة أسلافا للمعتزلة الفرقة لأوجب عليهم هذا الأصل قتال معاوية، ونحن نراهم قد توقفوا عن القتال وابتعدوا عن الفتنة؛ مما يدل على بطلان القول بأنهم أسلاف للمعتزلة، وعليه فيبطل هذا الرأي.
الرأي الرابع:
وهو رأي انفرد به الدكتور أحمد أمين، فقد قال في كتابه (فجر الإسلام): ولنا فرض آخر في تسميتهم المعتزلة لفتنا إليه ما قرأناه في خطط المقريزي من أن من بين الفرق اليهودية التي كانت منتشرة في ذلك العصر وما قبله طائفة يقال لها "الفروشيم" وقال: إن معناها المعتزلة. وذكر بعضهم عن هذه الفرقة: أنها كانت تتكلم في القدر، وتقول: ليس كل الأفعال خلقها الله، فلا يبعد أن يكون هذا اللفظ قد أطلقه على المعتزلة قوم ممن أسلموا من اليهود لما رأوا بين الفرقتين من الشبه. وإن التشابه بين معتزلة اليهود ومعتزلة الإسلام موجود. فمعتزلة اليهود: يفسرون التوراة على مقتضى منطق الفلاسفة؛ ومعتزلة الإسلام: يتأولون كل ما في القرآن من أوصاف على مقتضى منطق الفلاسفة أيضا، فقد قال المقريزي في هؤلاء الفروشيم الذين ساهم المعتزلة قال: إنهم يأخذون بما في التوراة على معنى ما فسره الحكماء من أسلافهم (?).
وهذا الرأي مردود لأمور منها:
1 - أنه لم يرد له ذكر في كتب أهل الفرق المتقدمين الذين تعرضوا للمعتزلة بالبيان والتفصيل، فلو كان صحيحا لأشير إليه على الأقل، كما أشير إلى الآراء الأخرى في بيان سبب تسميتهم بالمعتزلة.
2 - أن ما استدل به الدكتور أحمد أمين ضعيف واه لا يستند على دليل، بل إنه مجرد افتراض، والرأي الذي لا يبنى على دليل صحيح لا يعتد به.
3 - إن الشبه بين فئتين: المعتزلة والطائفة اليهودية التي يذكرها أحمد أمين لا يستلزم أن يكون سبب تسميتهم بالمعتزلة، وعلى هذا: فهذا الرأي مردود. والرأي الأقرب للصواب في أصل تسمية المعتزلة - والله أعلم - أن اسم الاعتزال ظهر أثناء الحروب التي حصلت في عهد علي - رضي الله عنه - لكنه لم يطلق على فئة بعينها؛ بل من اعتزل عن السياسة أطلقت عليه، ومن اعتزل للعبادة أطلقت عليه، ثم إن وجود هذه الحروب مما أورث الخلاف بين المسلمين وتفرقهم فرقا, كل فرقة ترى أنها على الصواب ومن سواها على الخطأ؛ ومن ثم أخذوا يبحثون في حكمها، وأصبحت كل فرقة تضع حكما مخالفا للأخرى؛ مما ساقهم إلى البحث في حكم مرتكب الكبيرة، ووضعت بعض الفرق أحكاما متناقضة على إثرها حصلت قصة السائل الذي أتى إلى الحسن البصري في حلقته، وحكى له ما سمع من آراء متناقضة في حكم مرتكب الكبيرة، وطلب منه رأيه ثم إن أحد تلاميذ الحسن وهو واصل بن عطاء سبقه وأخرج حكما يخالف شيخه في مرتكب الكبيرة، وهو أنه في منزلة بين المنزلتين؛ وبسبب ذلك قال الحسن: اعتزلنا واصل ثم طرده من حلقته، فاعتزل في سارية من سواري مسجد البصرة يقرر ما أجاب به على جماعة استحسنوا رأيه وتابعوه، فسموا من ذلك الحين المعتزلة؛ لاعتزالهم الحسن وقول الأمة بأسرها وحكمهم على صاحب الكبيرة باعتزاله المؤمنين والكافرين (?).
وعلى ذلك؛ فظهور هذه التسمية على فرقة بعينها مستقلة، إنما حصل في حلقة الحسن البصري – رحمه الله – والله أعلم.