ومن مسالك علماء السلف في رد بدعة القدرية نسبة مقالتهم إلى مصادر غير إسلامية، كاليهودية، والنصرانية، والصابئة؛ فقد روى عبدالله بن أحمد أن سعيد بن جبير كان يقول عن المرجئة: "إنهم يهود القبلة" (?).وكان قول - أيضاً -: "مثل المرجئة مثل الصابئين" (?)، ويفسر ذلك فيقول: "مثلهم مثل الصائبين، إنهم أتوا اليهود، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: التوراة، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، ثم أتوا النصارى، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، ثم قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، قالوا: فنحن بد ندين" (?).
وكان السلف لا يسلمون عليهم، ولا يجالسونهم، وينهون عن ذلك: فقد روى ابن بطة، أن ذر بن عبدالله "أحد المرجئة" شكا سعيد بن جبير إلى أبي البحتري الطائي، فقال: "مررت، فسلمت عليهن فلم يرد علي، فقال أبو البحتري لسعيد بن جبير، فقال سعيد: إن هذا يجدد في كل يوم ديناً، لا، ولا كلمته أبدا" (?).وقال أيوب السختياني: قال لي سعيد بن جبير: "لا تجالس طلقاً "أي طلق بن حبيب، وكان مرجئيا، وقال مرة أخرى: رآني سعيد بن جبير جلست إلى طلق بن حبيب، فقال: ألم أرك جلست إليه؟ لا تجالسه، قال: وكان ينتحل الإرجاء" (?)، وكان سفيان الثوري يقول: "ما كنا نأتي حماد بن أبي سليمان "ت 120هـ" إلا سرا من أصحابنا، كانوا يقولون: أتأتيه؟ أتجالسه؟ فما كنا نأتيه إلا سرا" (?)، وقال في رواية أخرى: "كنت ألقى حماد بعد ما أحدث "الإرجاء"، فما كنت أسلم عليه" (?). وكان الأعمش لا يسمح بجلوسهم في حلقة الحديث التي كان يعقدها، وكان يأمر بإخراجهم من المسجد (?).وكان السلف لا يحضرون جنائزهم، ولا يصلون عليهم إذا ماتوا؛ "فعندما مات عمر بن ذر، وكان رأسا في الإرجاء، لم يشهد جنازته سفيان الثوري، ولا الحسن بن صالح (?)، وعندما توفي عبدالعزيز بن أبي رواد، فجيء بجنازته، فوضعت عند باب الصفا، واصطف الناس، وجاء سفيان الثوري، فقال الناس: جاء الثوري جاء الثوري، فجاء حتى خرق الصفوف، والناس ينظرون إليه، فجاوز الجنازة، ولم يصل عليها؛ وذلك لأنه كان يرى الإرجاء" (?)، وسئل عن ذلك، فقال: "والله، إني لأرى الصلاة على من هو دونه عندي، ولكني أردت أن أرى الناس أنه مات على بدعة" (?).
هذه جملة من مواقف علماء السلف من بدعة الإرجاء، وهي تعبر عن أصالة منهج السلف، واشتهاره، وهيمنته على الأمة في هذه المرحلة، واستلهام علماء السلف، واقع الدعوة الإسلامية الأولى، بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، الذين اعتقدوا ما جاء به الكتاب، والسنة، ولم تؤثر فيهم الأحداث، والفتن، فكانوا هم أهل الحق الذي وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا يضرهم من خالفهم؛ حيث وقفوا لهذه البدع بالمرصاد، فكل البدع، صغيرة كانت أو كبيرة، فهي مرفوضة عندهم؛ لأن الأتباع لهذا الدين الحق بوضوحه، وظهوره، لا يعطي أي مبرر لأهل البدع أن يعلنوا بدعهم، أو يدعوا لها.
¤العقيدة الإسلامية وجهود علماء السلف في تقريرها والدفاع عنها حتى نهاية العصر الأموي لعطا الله المعايطة - ص 601