وبعضكم يقول: كان علي أولى بالحق وأصحابه. كلهم ثقة وكلهم عندنا مصدق، فنحن لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون هو الذي يحكم بينهما (?).فهؤلاء إن صح إطلاق الإرجاء على موقفهم فهو إرجاء حيرة لا إرجاء فكرة، وهذه الحيرة خاصة بقضية الحكم على المختلفين بالخطأ أو الصواب، أما موالاتهم والإقرار بفضلهم وسابقتهم فلم يكن موضوع شك عندهم (?).

3 - الفئة الثالثة:

وهي فئة من ذلك الصنف البشري المحدود الإدراك الذي يضيق أفقه أو علمه عن تفهم الخلاف فتثور نفسه ساخطة على طرفيه حانقة عليهما دون تبصر في الدوافع أو تريث في الحكم، فمنهم فرقة أعلنت نقمتها وسخطها على كل الأطراف، وربما كان أصل ضجرها وحنقها أن المختلفين هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم تكن صحبتهم دافعاً لالتماس العذر بل كانت- حسب فهمهم- مبرراً للعداء والبراء، إذ قالوا: كيف يختلفون ويتقاتلون وهم أصحاب رسول الله وأعلم الناس بالدين، والأصل أن يكونوا أكثر الأمة تمسكاً ووفاقاً ودعوة وجهاداً؟! إذن لقد انحرفوا عما كانوا عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب، ومن ثم فلا حرمة لمن نكص على عقبيه ولا اعتبار لسابقته في الإسلام ما دامت هذه خاتمته!!!

هذه الفكرة تبناها الفكر الخارجي الذي بلغ به حنقه على الأطراف جميعها إلى تدبير مؤامرة لاغتيال زعمائها "علي ومعاوية وعمر بن العاص" - رضي الله عن الجميع- على ما هو مشهور في التاريخ.

وعلى رأي الملطي رحمه الله - هذه الفئة هي أصل المعتزلة ولا يخفى ما بين المعتزلة والخوارج من تشابه لا سيما في حكم مرتكب الكبيرة.

كما أن هذا هو أصل المذهب الذي يرى تخطئة وتفسيق أو تكفير كلا الطائفتين، وهو مذهب كثير من أهل الأهواء من المعتزلة والخوارج وبعض المتكلمين والمتفلسفين.

وكان من هذه الفئة فرقة أقل غلواً وشططاً، فقالوا: ما حدث من الصحابة ما حدث وهم على الدرجة العليا من الفضل والعلم- إلا وفي الأمر ما لا نستطيع إدراكه ولا نأمن مغبة الحكم عليه، وإذا كنا عاجزين عن تصور حقيقة القضية ولم يكن بالإمكان ترجيح أحد طرفيها، فلنقف موقفاً وسطاً بين القول بأنهم على الحق- الذي يتنافى مع ما بدر منهم من خلاف واقتتال وبين القول بأنهم على الباطل- وهو ما يتنافى مع فضلهم وسابقتهم.

وهذا الموقف- في رأيهم- هو أن نبرئ أنفسنا من الوقوف مع أحد منهم أو عليه، فنكل أمر الجميع إلى الله وهو الذي يتولى حسابهم أما نحن فلا نوالي أحداً منهم ولا نعاديه ولا نشهد له بحق ولا باطل.

ولم تستطع هذه الفرقة الأخيرة أن تتجرأ على تكفير الصحابة كحال نظيرتها الأولى، ورأوا أن الذي يتفق مع موقفهم، هو اعتقاد أن ما ارتكبوه - أي الصحابة - هو دون الشرك بالله تعالى، ومن ثم فهم داخلون تحت المشيئة.

وهذه هي الطائفة التي يصح أن توصف بأنها أصل الإرجاء، سواء منه ما نشأ في أحضان الخوارج وهو الأعم الأغلب، أو ما كان آراء فردية ومواقف نفسية، مثلما ينسب إلى الحسن بن محمد.

¤ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - 1/ 239

طور بواسطة نورين ميديا © 2015