أجاب قائلا: أصبحت قريبا أجلي، بعيدا أملي، سيئا عملي، فإذا رأى شيئا من الدهشة يبدو على ملامح سائليه قال: ما ظنكم برجل يقطع إلى الآخرة كل يوم مرحلة.
هل تحاسب نفسك وتستعد للآخرة؟
يروي أحد الشعراء "دكين بن سعيد الدارمي" قال: امتدحت عمر بن عبد العزيز يوم كان واليا على المدينة، فأمر لي بخمس عشرة ناقة من كرائم الإبل، كرهت أن أمضي بهن وحدي، ولم تطب نفسي ببيعهن، وفيما أنا كذلك، قدمت علينا رفقة تبتغي السفر نحو ديارنا في نجد، فسألتهم الصحبة، فقالوا: مرحبا بك، ونحن نخرج الليلة، فأعد نفسك للخروج معنا، فمضيت إلى عمر بن عبد العزيز مودعا، فلما هممت بالانصراف قال: يا دكين إن لي نفسا تواقة، فإن عرفت أنني بلغت أكثر مما أنا فيه الآن، فأتني ولك مني البر والإحسان، فقلت: اشهد لي بذلك أيها الأمير، فقال: أشهد الله تعالى على ذلك، فقلت: ومن خلقه، فقال: هذين الشيخين اللذين في مجلسي، فأقبلت على أحدهما وقلت: بأبي أنت وأمي، قل لي ما اسمك حتى أعرفك؟ فقال: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فالتفت إلى الأمير وقلت: لقد ظفرت بشاهد مسموع الكلمة، ثم نظرت إلى الشيخ الآخر، وقلت: ومن أنت جعلت فداك؟ فقال: أبو يحيى مولى الأمير، فقلت: وهذا شاهد من أهله، ثم حييت وانصرفت بالنوق إلى ديار قومي، ثم دارت الأيام وتولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، ودخلت عليه فنظر إلى مولاه أبي يحيى نظرة طويلة، ثم التفت إليه وقال: يا أمير المؤمنين إن عندي لهذا البدوي شهادة عليك، فقال عمر: أعرفها، ثم التفت إلي وقال: ادن مني يا دكين، فلما صرت بين يديه مال علي وقال: أتذكر ما قلته لك في المدينة من أن نفسي ما نالت شيئا قط إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: وهأنذا قد نلت ما في الدنيا وهو الملك، فنفسي تتوق إلى غاية ما في الآخرة وهو الجنة، وتسعى إلى الفوز برضوان الله تعالى، ولئن كان الملوك يجعلون الملك سبيلا لبلوغ عز الدنيا، فلأجعلنه سبيلا إلى بلوغ عز الآخرة، ثم قال: يا دكين، إني -والله- ما أخذت شيئا من مال السلمين منذ وليت هذا الأمر، وإنني لا أملك إلا ألف درهم فخذ نصفها واترك نصفها لي. فأخذت المال الذي أعطانيه، فوالله ما رأيت أعظم منه بركة (?).