ونعيمها، وكان أحد قادة الروم يرقب معاذا. فلما بدأ القوم ينادي بعضهم بعضا للنزال، خرج هذا الرومي، ينادي بالمسلمين: ليخرج إليَّ فارسكم ذاك وهو يوميء بسيفه إلى معاذ، ويتقدم معاذ بن جبل من قائده أبي عبيدة ليستأذنه بالخروج لمنازلة ذلك الرومي، فيقول له أبو عبيدة: يا معاذ، سألتك بحق رسول الله أن تلزم رايتك، فوالله إن لزومك الراية أحب إلي من قتلك لهذا العلج. وينزل معاذ عند رأي قائده، وينادي في الناس: يا معشر المسلمين، من أراد فرسا يقاتل عليه في سبيل الله فهذا فرسي، وهذا سلاحي فليأخذهما، وما كاد معاذ ينهي كلامه حتى كان عبد الرحمن يقف أمامه ويقول: يا أبتاه، إني خارج إلى هذا العلج، فإن صبرت فإن المنة لله، وإن قتلني، فالسلام عليك يا أبتاه، وإن كان لك إلى رسول الله حاجة فأوصني بها. هنالك أطرق معاذ، وبدأت تحتدم في نفسه معركة بين عاطفة الأبوة التي تغريه بمنع ولده من المخاطر، وعاطفة الإيمان التي تغريه بأن يخلي بين ولده وبين ما يريد من ابتغاء مرضاة الله.
ثم لم يلبث أن يحسم الأمر، فيربت على كتف ولده وهو يقول: يا بني، دونك وما عزمت عليه، فإن رزقك الله الشهادة، ولحقت برسول الله فأقرئه مني السلام، وقل له: جزاك الله عن أمتك خيرا يا رسول الله.
وينطلق عبد الرحمن بن معاذ بن جبل -رضي الله عنهما- نحو علج الروم، فيناوشه ويصاوله، ثم يضربه ضربة سيف كادت تجندله، لولا أن الرومي قفز بعيدا فاختل توازن عبد الرحمن، فعالجه الرومي بضربة من سيفه قطعت عمامته، وشجت رأسه، وظن الرومي أنه قتل عبد الرحمن، فتراجع عنه فانكفأ عبد الرحمن إلى المسلمين، فاستقبله أبوه معاذ بن جبل يقول له: ما بك يا بني؟ فيقول عبد الرحمن: قتلني العلج يا أبتاه، فيقول معاذ: وما الذي تريد من الدنيا يا بني، وليس بينك وبين الجنة إلا خطوات؟ عد إلى العلج فقاتله. ويتحامل عبد الرحمن على جرحه العميق وينطلق من جديد ليقاتل الرومي، لكن مشيئة الله تسبق به إلى الجنة قبل أن يصل إلى الرومي (?).
هل تعمل على تسخير إمكاناتك لنصرة دين الله حتى ولو كانت التضحية بابنك؟