كل الناجحين في الدنيا إنما حققوا آمالهم بالصبر، واستمرأوا المر، واستعذبوا العذاب، واستهانوا بالصعاب، ومشوا على الأشواك، وحفروا الصخور بالأظافر، ولم يبالوا بالأحجار تقف في طريقهم، والطعنات تغرس في ظهرهم، وبالشرك تنصب للإيقاع بهم، وبالكلاب تنبح من حولهم، بل مضوا في طريقهم غير وانين ولا متوقفين، متذرعين بالعزيمة، مسلحين بالصبر قد يعثرون ثم لا يلبثون أن ينهضوا، وقد يخطئون ثم يوشكون أن يصيبوا، وقد يجرحون ثم لا يلبث جرحهم أن يندمل، وقد يفشلون مرة ومرة فلا يلقون السلاح ولا يستسلمون لليأس ولا يفقدون نور الأمل، لقد عرف عشاق المجد، وخطاب المعالي، وطلاب السيادة أن الرفعة في الدنيا كالفوز في الآخرة، لا تنال إلا بركوب متن المشقات، وتجرع غصص الآلام، والصبر عن كثير مما يجب.
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
من ظن أن طريق الإيمان مفروشة بالأزهار والرياحين، فقد جهل طبيعة الإيمان بالرسالات، وطبيعة الأعداء، يقول تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} [العنكبوت: 1 - 2]،وقال أيضا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214] الجنة إذن لابد لها من ثمن، وهي سلعة غالية، فلا مفر من الثمن، وقد دفعه أصحاب الدعوات من قبل، فلابد أن يدفعه إخوانهم من بعد.
يقول تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
فالبلاء هنا بلاء عام، يصيب القلوب بالخوف، والبطون بالجوع، والأموال بالنقص، والأنفس بالموت، والثمرات بالآفات، ومن لطف الله تعالى ورحمته هنا أنه جعل البلاء {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155] وتنكير شيء هنا للتقليل والتحقير، لأن ما هو أكبر وأكثر لا يطيقون، فمسهم بشيء قليل من البلاء، تخفيفًا عنهم، وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ