فتى فإن جده اختاره خليفة له لما كان له من عظيم الصفات، فكان اختيارًا صادف أهله. وليس فى تاريخ العصر الإسلامى فى الأندلس عهد أزهى وأبهر من عهد عبد الرحمن الثالث. كان حكمه طويلا، فقد حكم نصف قرن: من 300 - 350 هـ (912 - 961 م)، فتمكن الأمير من تنفيذ سياسته تنفيذا متواصلا منقطع النظير، وساعدته هذه المزايا على أن يخمد مراكز الثورة المختلفة التى كانت لاتهدأ فى الأندلس، منذ أن دخلها المسلمون؛ وظلت البلاد هادئة عشرات السنين. وفى عهد عبد الرحمن الثالث وخليفته الحكم الثانى، وفى العهد الذى كان الأمر فيه فى قبضة المنصور والمظفر الدكتاتورين العامريين، بلغ ملك المسلمين فى الأندلس أوج عظمته، ولم تستطع الأندلس بعد ذلك أن تصل إلى النفوذ السياسى والمدنية الزاهرة اللذين بلغتهما فى عهد هذين الأميرين، ولا فى أن يكون لها الشأن الأول فى الغرب وأوروبا وإفريقية.
ولا نريد تفصيل القول فى عهد عبد الرحمن الثالث، بل حسبنا أن نقتصر على دراسة أهم ما فيه. ونستطيع أن نقسمه إلى عصرين كبيرين: أولهما عمر إعادة السلام إلى البلاد، وقد تم فيه تحقيق الوحدة السياسية فى الإمبراطوية القرطبية. والعصر الثانى أطول من الأول، وأكثر ما يميزه الاشتغال بالشئون الخارجية وبالعلاقات بالممالك المسيحية فى الشمال، وبشمالى إفريقية الذى كان يحكمه الفاطميون.
ولما اعتلى عبد الرحمن الثالث العرش، بدأ فى العمل، ورسم لنفسه برنامجًا يقوم على القضاء على الثورات التى كانت تروى أرض الأندلس بالدماء منذ قيام الدولة الأموية، وعلى أن يشل سلطان أشراف العرب الأقوياء، وأن يحمى الثغور الإسلامية فى الشمال. وقد نفذ برنامجه جزءًا جزءًا. وفى العام الأول من حكمه استولى على إستجة، ودك حصونها. وقام بغزوة أخرى كانت نتيجتها الاستيلاء على قلعة مونتليون Monteleon الحصينة، ونشر السكينة فى إقليمى جَيَّان