الشَّافِعِيَّةِ لِتَصْرِيحِ أَئِمَّتِهِمْ بِلَغْوِهِ، حَتَّى رَأَيْتُهُ لِابْنِ سُرَيْجٍ، وَقَالَهُ بَعْضُ التَّابِعِينَ، انْتَهَى.
وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي عَارِضَتِهِ عَلَى ابْنِ سُرَيْجٍ، وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ وَأَطَالَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي التَّوْضِيحِ: أَنَّ ابْنَ الشِّخِّيرِ يَقُولُ: يُعْتَمَدُ عَلَى حِسَابِ الْمُنَجِّمِينَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ يَعْمَلُ عَلَى ذَلِكَ هُوَ فِي خَاصَّتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كَلَامِ الْمُقَدِّمَاتِ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ الثَّانِي وَالْمِائَةِ بَيْنِ قَاعِدَةِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ: يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا بِالْحِسَابِ وَالْآلَاتِ وَكُلِّ مَا دَلَّ عَلَيْهَا، وَقَاعِدَةِ رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ فِي الرَّمَضَانَاتِ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا بِالْحِسَابِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْحِسَابِ، قَالَ سَنَدٌ: إِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَرَى الْحِسَابَ فَأَثْبَتَ الْهِلَالَ بِهِ لَمْ يُتَّبَعْ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى خِلَافِهِ، مَعَ أَنَّ حِسَابَ الْأَهِلَّةِ وَالْخُسُوفَ وَالْكُسُوفَ قَطْعِيٌّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَجْرَى عَادَتَهُ بِأَنَّ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَانْتِقَالَاتِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ طُولَ الدَّهْرِ، وَكَذَلِكَ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، وَالْعَوَائِدُ إِذَا اسْتَمَرَّتْ أَفَادَتِ الْقَطْعَ، كَمَا إِذَا رَأَيْنَا شَيْخًا نَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَمْ يُولَدْ كَذَلِكَ، بَلْ طِفْلًا لِلْعَادَةِ. وَإِلَّا فَالْعَقْلُ يُجَوِّزُ وِلَادَتَهُ كَذَلِكَ. فَالْقَطْعُ الْحَاصِلُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْعَادَةِ، وَإِذَا حَصَلَ الْقَطْعُ بِالْحِسَابِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ. وَالْفَرْقُ هَاهُنَا وَهُوَ عُمْدَةُ الْخَلْفِ وَالسَّلَفِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَصَبَ زَوَالَ الشَّمْسِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الظَّهْرِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَوْقَاتِ، فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا بِأَيِّ طَرِيقٍ لَزِمَهُ حُكْمُهُ، فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ الْحِسَابُ الْمُفِيدُ الْقَطْعَ، وَأَمَّا الْأَهِلَّةُ فَلَمْ يَنْصِبْ خُرُوجَهَا مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ سَبَبًا لِلصَّوْمِ، بَلْ نَصَبَ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ خَارِجًا عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ هُوَ السَّبَبُ، فَإِذَا لَمْ تَحْصُلِ الرُّؤْيَةُ لَمْ يَحْصُلِ السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ وَلَا يَثْبُتِ الْحَكَمُ، وَيَدُلْ لِذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صُومُوا لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَلَمْ يَقِلْ: لِخُرُوجِهِ عَنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ، قَالَ فِي الصَّلَاةِ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] أَيْ مَيْلِهَا، انْتَهَى أَكْثَرُهُ بِلَفْظِهِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْقَوْلِ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى حِسَابِ الْمُنَجِّمِينَ، كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ وَغَيْرُهُ، وَمَا فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَرُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ حَسَنٌ، وَقَدْ قَبِلَهُ ابْنُ الشَّاطِّ وَلَهُ فِي الذَّخِيرَةِ نَحْوُ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَقَالَ أَهْلُ الْحِسَابِ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ قَطْعًا - فَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا: أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ لِقَوْلِ أَهَّلِ الْحِسَابِ. وَقَالَ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ؛ لِأَنَّ الْحِسَابَ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ وَالشَّهَادَةُ ظَنِّيَّةٌ، وَالظَّنُّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعَ. وَنَازَعَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعُ: ذَكَرَ ابْنُ نَاجِيٍّ فِي شَرَحِ الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّ ابْنَ هَارُونَ اعْتَرَضَ عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ فِي حِكَايَةِ الِاتِّفَاقِ بِأَنَّ مُطَرِّفًا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ مُطَرِّفًا الْمَذْكُورَ لَيْسَ هُوَ مُطَرِّفًا الْمَالِكِيَّ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، انْتَهَى.
الْخَامِسُ: يُكْرَهُ الِاشْتِغَالُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ نَاقِصِ الشُّهُورِ وَكَامِلِهَا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنُّجُومِ فِيمَا يُعْرَفُ بِهِ سَمْتُ الْقِبْلَةِ وَأَجْزَاءُ اللَّيْلِ جَائِزٌ بَلْ مُسْتَحَبٌّ -: وَأَمَّا النَّظَرُ فِي أَمْرِهَا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ نُقْصَانِ الشُّهُورِ مِنْ كَمَالِهَا دُونَ رُؤْيَةِ أَهِلَّتِهَا فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي، إِذْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُعَوِّلَ فِي صَوْمِهِ وَفِطْرِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَيَسْتَغْنِي عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَهِلَّةِ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ إِذَا أُغْمِيَ الْهِلَالُ، هَلْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مُطَرِّفُ بْنُ الشَّخِّيرِ: إِنَّهُ يَعْمَلُ فِي خَاصَّتِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَعْلُومُ مِنْ مَذْهَبِهِ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا يُعْلَمُ بِهِ الْكُسُوفَاتُ لِأَنَّهُ لَا يَعْنِي. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ؛ وَلِأَنَّهُ يُوهِمُ الْعَوَامَّ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَيَزْجُرُ عَنْ ذَلِكَ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ، انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ.
(قُلْتُ) : وَلَا يَحْرِمُ الِاشْتِغَالُ؛ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ