وَقَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ: إنَّ التَّحْكِيمَ يَخْرُجُ مِنْ تَعْرِيفِهِ لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ خُرُوجِهِ فَإِنَّ الْمُحَكِّمَ لَا يَحْكُمُ ابْتِدَاءً إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْحَكَمَيْنِ وَلَا يَحْكُمُ فِي الْقِصَاصِ وَاللِّعَانِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِهِمَا قَالُوا فَإِنْ حَكَمَ فِيهَا بِغَيْرِ جَوْرٍ نَفَذَ حُكْمُهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّعْدِيلَ وَالتَّجْرِيحَ كَذَلِكَ فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ) قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ حَالُ الْفَقِيهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَقِيهٌ: كَحَالِ عَالِمٍ بِكُبْرَى قِيَاسِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ فَقَطْ وَحَالُ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي كَحَالِ عَالِمٍ بِهِمَا مَعَ عِلْمِهِ بِصُغْرَاهُ وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْعِلْمَ بِهِمَا أَشَقُّ وَأَخْصَرُ مِنْ الْعِلْمِ بِالْكُبْرَى فَقَطْ وَأَيْضًا فَإِنَّ فِقْهَ الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا مَبْنِيَّانِ عَلَى إعْمَالِ النَّظَرِ فِي الصُّوَرِ الْجُزْئِيَّةِ وَإِدْرَاكِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الْكَائِنَةِ فِيهَا فَيُلْغَى طَرْدُهَا وَيُعْمَلُ مُعْتَبَرُهَا، انْتَهَى.
وَأَصْلُهُ لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَنَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَعِلْمُ الْقَضَاءِ وَإِنْ كَانَ أَحَدَ، أَنْوَاعِ عِلْمِ الْفِقْهِ وَلَكِنَّهُ مُتَمَيِّزٌ بِأُمُورٍ لَا يُحْسِنُهَا كُلُّ الْفُقَهَاءِ وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ عَارِفًا بِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَاعٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ كَمَا أَنَّ عِلْمَ الْفَرَائِضِ كَذَلِكَ وَكَمَا أَنَّ عِلْمَ التَّصْرِيفِ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَكْثَرُ أَهْلُ زَمَانِنَا لَا يُحْسِنُونَهُ وَقَدْ يُحْسِنُهُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ فِي بَقِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا غَرَابَةَ فِي امْتِيَازِ عِلْمِ الْقَضَاءِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَابَةُ فِي اسْتِعْمَالِ كُلِّيَّاتِ عِلْمِ الْفِقْهِ وَانْطِبَاقِهَا عَلَى جُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُوَ عَسِيرٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَنَجِدُ الرَّجُلَ يَحْفَظُ كَثِيرًا مِنْ الْعِلْمِ وَيَفْهَمُ وَيُعَلِّمُ غَيْرَهُ فَإِذَا سُئِلَ عَنْ وَاقِعَةٍ بِبَعْضِ الْعَوَامّ مِنْ مَسَائِلِ الصَّلَاةِ أَوْ مِنْ مَسَائِلِ الْإِيمَانِ لَا يُحْسِنُ الْجَوَابَ بَلْ لَا يَفْهَمُ مُرَادَ السَّائِلِ عَنْهَا إلَّا بَعْدَ عُسْرٍ. وَلِلشُّيُوخِ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ نَبَّهَ ابْنُ سَهْلٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ عَلَى بَعْضِهَا، انْتَهَى. وَمِنْهَا مَا قَالَ الْبِسَاطِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ فَطِنَ، وَبِعَصْرِنَا الْآنَ شَخْصٌ يَتَعَاطَى الدِّقَّةَ فِي الْعِلْمِ وَيُنْهَى عَنْ جُزْئِيَّةٍ فَيَتَجَنَّبُهَا بِشَخْصِهَا ثُمَّ يَقَعُ فِي أُخْرَى مِثْلِهَا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ هَذِهِ مِثْلُ تِلْكَ تَجَنَّبَهَا وَيَقَعُ فِي ثَالِثَةٍ وَعَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ صِفَاتِ الْقَاضِي الْمَطْلُوبَةَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ (الْأَوَّلُ) شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ وَعَدَمُهُ يُوجِبُ الْفَسْخَ (وَالثَّانِي) مَا يَقْتَضِي عَدَمُهُ الْفَسْخَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ (الثَّالِثُ) مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَأَشَارَ الْمُؤَلِّفُ إلَى الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ أَهْلُ الْقَضَاءِ عَدْلٌ إلَى قَوْلِهِ وَإِلَّا فَأَمْثَلُ مُقَلِّدٍ، وَإِلَى الثَّانِي بِقَوْلِهِ وَنَفَذَ حُكْمُ، أَعْمَى إلَى قَوْلِهِ وَوَجَبَ عَزْلُهُ وَإِلَى الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ كَوَرِعٍ إلَى آخِرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَشَمِلَ قَوْلُهُ: عَدْلٌ، الْحُرَّ الْمُسْلِمَ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ بِلَا فِسْقٍ كَمَا سَيَذْكُرُهُ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي كِتَابِ الْإِمَارَةِ: وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حُرًّا، وَأَمِيرُ الْجَيْشِ وَالْحَرْبِ فِي مَعْنَاهُ فَإِنَّهَا مَنَاصِبُ دِينِيَّةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا تَنْفِيذُ أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَا يَصْلُحُ لَهَا الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ نَاقِصٌ بِالرِّقِّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَمَسْلُوبُ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَالتَّنْفِيذِ وَلَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَلَا لِلْإِمَارَةِ وَأَظُنُّ جُمْهُورَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ جَوَازُ وِلَايَةِ الْمُعْتَقِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَهُوَ الْمَعْرُوفُ وَعَزَاهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لِلْجُمْهُورِ، قَالَا: وَمَنَعَهُ سَحْنُونٌ خَوْفًا مِنْ اسْتِحْقَاقِهِ فَيَجِبُ رَدُّهُ إلَى الرِّقِّ وَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى رَدِّ أَحْكَامِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّ وِلَايَةَ الْفَاسِقِ لَا تَصِحُّ وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ وَافَقَ الْحَقَّ أَمْ لَمْ يُوَافِقْهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي تَوْضِيحِهِ، وَقَالَهُ فِي التَّنْبِيهَاتِ وَنَقَلَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ وَغَيْرُهُ وَقَالَ أَصْبَغُ: الْفِسْقُ مُوجِبٌ لِلْعَزْلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى الْفَاسِقُ وَيَمْضِي مِنْ أَحْكَامِهِ مَا وَافَقَ الْحَقَّ، انْتَهَى. مِنْ التَّوْضِيحِ بِالْمَعْنَى. وَقَالَ فِي الْعُمْدَةِ: وَهَلْ يَنْعَزِلُ بِفِسْقِهِ أَمْ يَجِبُ عَزْلُهُ قَوْلَانِ، انْتَهَى.
ص (ذَكَرَ)
ش: قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَرَوَى ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ جَوَازَ وِلَايَةِ الْمَرْأَةِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ، قَالَ ابْنُ زَرْقُونٍ: أَظُنُّهُ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ شَهَادَتُهَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: لَا حَاجَةَ لِهَذَا التَّأْوِيلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ابْنُ الْقَاسِمِ