بَيْنَ كُلِّ مُتَبَايِعَيْنِ إلَّا مَا خَصَّتْهُ السُّنَّةُ بِالرَّدِّ، وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ مُوَلًّى عَلَيْهِ مَا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَزِمَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُفْسَخْ وَلِمَ يُخْتَلَفْ فِي ذَلِكَ انْتَهَى.
وَقَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ فِي كِتَابِ الْمُرَابَحَةِ: لَا قِيَامَ لِلْمُبْتَاعِ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ بِغَبْنٍ، وَلَا بِغَلَطٍ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْأَقْوَالِ، وَقِيلَ: إنَّهُ يَرْجِعُ بِالْغَلَطِ، وَأَمَّا فِي الْغَبْنِ، وَهُوَ الْجَهْلُ بِقِيمَةِ الْمُبْتَاعِ فَلَا رُجُوعَ بِهِ فِي الْمُسَاوَمَةِ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَا فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الرُّهُونِ، وَلَا أَعْرِفُ فِي الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا كَانَ مِنْ الشُّيُوخِ مَنْ يَحْمِلُ مَسْأَلَةَ أَشْهَبَ مِنْ الرُّهُونِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةٌ لَهَا مَعْنًى أُوجِبَ مِنْ أَجْلِهَا الرَّدُّ بِالْغَبْنِ فَلَيْسَتْ بِخِلَافٍ لِلْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ عَنْ الْمَذْهَبِ، وَأَرَاهُ ابْنَ الْقَصَّارِ أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ بِالْغَبْنِ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَتَأَمَّلْهُ وَقِفْ عَلَيْهِ انْتَهَى.
ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا بَيْعُ الِاسْتِئْمَانِ وَالِاسْتِرْسَالِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: اشْتَرِ مِنِّي سِلْعَتِي كَمَا تَشْتَرِي مِنْ النَّاسِ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ الْقِيمَةَ فَيَشْتَرِي مِنْهُ بِمَا يُعْطِيهِ مِنْ الثَّمَنِ وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إنَّ الِاسْتِرْسَالَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: بِعْنِي كَمَا تَبِيعُ النَّاسَ، وَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ فَلَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ إذَا كَانَ الِاسْتِرْسَالُ.
وَالِاسْتِنَامَةُ وَاجِبًا بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ ظُلْمٌ» وَالِاسْتِنَامَةُ بِالنُّونِ قَبْلَ الْأَلِفِ وَبِالْمِيمِ بَعْدَهَا كَمَا ضَبَطَهُ ابْنُ غَازِيٍّ فِي أَوَّلِ فَصْلِ الْمُرَابَحَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي الْقِيَامِ بِالْغَبْنِ طُرُقًا: الْأُولَى: طَرِيقَةُ ابْنِ رُشْدٍ لَكِنْ ذَكَرَ كَلَامَهُ فِي الْبَيَانِ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَلَامَهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّرِيقَ الثَّانِيَةَ عَنْ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَنَصَّهُ: أَبُو عَمْرٍو فِي بَيْعِ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَنْصِحِ يُوجِبُ لِلْمَغْبُونِ الْخِيَارَ فِيهِ، وَفِي بَيْعِ غَيْرِهِ الْمَالِكِ أَمْرَ نَفْسِهِ لَا أَعْلَمُ فِي لُزُومِهِ خِلَافًا، وَلَوْ كَانَ بِأَضْعَفِ الْقِيمَةِ وَسَمِعَهُ عِيسَى بْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ الرُّهُونِ اهـ. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَا عَزَاهُ لِكِتَابِ الرُّهُونِ فِي سَمَاعِ عِيسَى إنَّمَا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ، ثُمَّ ذَكَرَ الطَّرِيقَةَ الثَّالِثَةَ عَنْ الْبَاجِيِّ، وَنَصَّهُ الْبَاجِيُّ عَنْ الْقَاضِي فِي لُزُومِ الْبَيْعِ بِمَا لَا يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ عَادَةً، وَأَحَدُهُمَا لَا يَعْلَمُ سِعْرَ ذَلِكَ إذَا زَادَ الْغَبْنُ عَلَى الثُّلُثِ، أَوْ خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ وَالْمُتَعَارَفِ فِيهِ قَوْلَانِ لِأَصْحَابِنَا فَالْأَوَّلُ: قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَحَصَلَ فِي التَّوْضِيحِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ: طَرِيقَةُ ابْنِ رُشْدٍ، وَنَقَلَهَا بِاخْتِصَارٍ، وَنَصَّهُ، وَلِصَاحِبِ الْمُقَدِّمَاتِ طَرِيقَةٌ ثَالِثَةٌ إنْ وَقَعَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِرْسَالِ وَالِاسْتِنَامَةِ فَالْقِيَامُ بِالْغَبْنِ وَاجِبٌ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْمُكَايَسَةِ فَلَا قِيَامَ بِالْغَبْنِ اتِّفَاقًا.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ: طَرِيقُ الْمَازِرِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ الْبَائِعَ أَنَّهُ غَيْرُ عَارِفٍ بِقِيمَتِهِ، فَقَالَ الْبَائِعُ: قِيمَتُهَا كَذَا فَلَهُ الرَّدُّ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْبَيْعِ وَبِثَمَنِهِ فَلَا رَدَّ لَهُ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، وَفِيمَا عَدَاهُمَا قَوْلَانِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ: عَدَمُ الْقِيَامِ بِالْغَبْنِ لِغَيْرِ الْعَارِفِ، وَفِي الْعَارِفِ قَوْلَانِ اهـ.
(قُلْت) مَا عَزَاهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِلْمَعُونَةِ عَكْسُ مَا فِيهَا وَنَصُّهَا فِي آخِرِ بَيْعِ الْخِيَارِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَيْعِ السِّلْعَةِ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ مَا يُسَاوِي أَلْفًا بِمِائَةٍ وَيَشْتَرِيَ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِأَلْفٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمَغْبُونِ مِنْهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الِاخْتِيَارُ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الرَّشَادِ وَالْبَصَرِ بِتِلْكَ السِّلْعَةِ، وَإِنْ كَانَا، أَوْ أَحَدُهُمَا بِخِلَافِ ذَلِكَ فَلِلْمَغْبُونِ الْخِيَارُ ا. هـ. وَنَحْوُهُ فِي التَّلْقِينِ قَالَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ: الْخِيَارُ يَثْبُتُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مُغَابَنَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ حَدِّهَا لِتَغَابُنِ النَّاسِ بِمِثْلِهِ فَقِيلَ إنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ، وَلَا خِيَارَ وَقِيلَ لِلْمَغْبُونِ مِنْهُمَا الْخِيَارُ إذَا دَخَلَ عَلَى بَيْعِ النَّاسِ الْمُعْتَادِ اهـ. وَقَالَ فِي الِاشْتِرَاءِ فَإِذَا تَبَايَعَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ لَا يَخْبُرُ سِعْرَ ذَلِكَ الْمَبِيعِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا خِيَارَ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَهُ الْخِيَارُ إذَا رَدَّ الْغَبْنَ عَلَى الثُّلُثِ، أَوْ خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ وَالْمُتَعَارَفِ اهـ.
وَكَانَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَبِعَ صَاحِبَ الْجَوَاهِرِ فِي عَزْوِ