اللَّخْمِيُّ فِيمَنْ خَرَجَ حَاجًّا فِي طَرِيقٍ مَخُوفَةٍ عَلَى غَرَرٍ، وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ هَلْ هُوَ مِنْ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إلَى التَّهْلُكَةِ أَوْ هُوَ مَأْجُورٌ بِسَبَبِ قَصْدِهِ إلَى فَرِيضَةِ الْحَجِّ وَالتَّقَرُّبِ بِالنَّفْلِ إنْ كَانَ قَدْ حَجَّ أَمْ لَيْسَ بِمَأْجُورٍ وَلَا مَأْثُومٍ؟ فَأَجَابَ: الْحَجُّ مَعَ هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ الْغَرَرِ سَاقِطٌ وَتَحَامُلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُسْلِمُ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ، قَالَ الْبُرْزُلِيُّ: هَذَا بَيِّنٌ عَلَى مَا حَكَى ابْنُ رُشْدٍ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ أَنْ لَا يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ عِزُّ الدِّينِ مِنْ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ رَأَيْتُهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَسَلِمَ فَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى الْغَالِبِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ هُنَا إذَا صَلَحَتْ نِيَّتُهُ وَهَذَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤَدِّي فَرَائِضَ الصَّلَاةِ وَتَوَابِعَهَا انْتَهَى. فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي أَعْنِي قَوْلَهُ: أَوْ يُضَيِّعُ رُكْنَ صَلَاةٍ لِكَمَيْدٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّ شَرْطَ رَكُوبِ الْبَحْرِ لِلْحَجِّ؛ فَأَحْرَى لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْلَمَ الرَّاكِبُ أَنَّهُ يُوفِي بِصَلَاتِهِ فِي أَوْقَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَيِّعَ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِهَا، وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ خَاصًّا بِالْبَحْرِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ مُطْلَقًا قَالَ فِي الْمَدْخَلِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا عَلِمَ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ تَفُوتُهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةً إذَا خَرَجَ إلَى الْحَجِّ فَقَدْ سَقَطَ الْحَجُّ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنَّ الْحَجَّ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِإِخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، وَشَبَهُهُ فَهُوَ سَاقِطٌ انْتَهَى.
وَقَالَ الْبُرْزُلِيُّ نَاقِلًا عَنْ الْمَازِرِيِّ فِي أَثْنَاءِ جَوَابِهِ عَنْ سُؤَالٍ مَا نَصُّهُ: إنْ كَانَ يَقَعُ فِي تَرْكِ الصَّلَوَاتِ حَتَّى تَخْرُجَ أَوْقَاتُهَا أَوْ يَأْتِيَ بِبَدَلٍ مِنْهَا فِي وَقْتِهَا وَلَمْ يُوقِعْهُ فِي ذَلِكَ إلَّا السَّفَرُ لِلْحَجِّ فَإِنَّ هَذَا السَّفَرَ لَا يَجُوزُ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ انْتَهَى.
وَلَعَلَّهُ سَقَطَ مِنْهُ قَبْلَ قَوْلِهِ أَوْ يَأْتِي بِبَدَلٍ مِنْهَا أَوْ يَتْرُكُ بَعْضَ أَرْكَانِهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَنَقَلَ التَّادَلِيُّ عَنْ الْمَازِرِيِّ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هِيَ الْوُصُولُ إلَى الْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ مَعَ الْأَمْنِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ إقَامَةِ الْفَرَائِضِ وَتَرْكِ التَّفْرِيطِ وَتَرْكِ الْمَنَاكِيرِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي مَنْسَكِهِ: اعْلَمْ أَنَّ تَضْيِيعَهُ لِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ سَيِّئَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تُوفِيهَا حَسَنَاتُ الْحَجِّ بَلْ الْفَاضِلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَهَمُّ، فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الْمَيْدَ وَلَوْ عَنْ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ بِرُكُوبِ الْبَحْرِ أَوْ الدَّابَّةِ تَرَكَ الْحَجَّ بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا لَمْ يَتَوَصَّلْ إلَيْهِ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يُقَصِّرُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الِاحْتِرَازِ مَا يَجِبُ فِي الْحَضَرِ انْتَهَى.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ هِلَالٍ فِي مَنْسَكِهِ: وَبِالْجُمْلَةِ فَلِتَكُنْ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ أَهَمَّ أُمُورِهِ فَلِيَسْتَعِدْ لَهَا ثِيَابًا طَاهِرَةً يَجِدُهَا إذَا تَنَجَّسَ ثَوْبُهُ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ إعْوَازِ الْمَاءِ، وَهَذَا إذَا كَانَ وَاجِدًا وَبَعْضُ الْقَافِلِينَ لَا يَسْتَعِدُّ إلَّا لِلَذَّةٍ لَطِيفَةٍ فَيَحْمِلُ لَذَائِذَ الْأَطْعِمَةِ وَيُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ وَبِالنَّجَاسَةِ وَلِتَفْرِيطِ الْحَاجِّ فِي الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرِهِمْ إيَّاهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِمْ: إنَّهُمْ عُصَاةٌ وَقَدْ أُخِذَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: لَا يَجُوزُ رَكُوبُ الْبَحْرِ لِلْحَجِّ إذَا أَدَّى لِتَعْطِيلِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ مَتَى خِيفَ تَعْطِيلُهَا فِي الْبَرِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّفَرُ إلَى الْحَجِّ، فَقَدْ سُئِلَ الْمَازِرِيُّ عَنْ حُكْمِ الْحَجِّ فِي زَمَنِهِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ مَتَى وَجَدَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَمِنَ أَنْ يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ وَأَنْ يَقَعَ فِي مُنْكَرَاتٍ أَوْ إسْقَاطِ وَاجِبَاتٍ مِنْ صَلَوَاتٍ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ وُجُوبُهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِي تَرْكِ صَلَوَاتٍ حَتَّى يَخْرُجَ أَوْقَاتُهَا وَلَمْ يُوقِعْهُ فِي ذَلِكَ إلَّا السَّفَرُ لِلْحَجِّ فَهَذَا السَّفَرُ لَا يَجُوزُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَرَى مُنْكَرَاتٍ وَيَسْمَعُهَا فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ انْتَهَى.
وَنَكَّرَ الْمُصَنِّفُ رُكْنًا لِيَشْمَلَ جَمِيعَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَأَدْخَلَ الْكَافَ عَلَى كَمَيْدٍ لِيَدْخُلَ الزِّحَامُ وَالضَّيِّقُ وَكَثْرَةُ النَّجَاسَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَمَالَ الْبَاجِيُّ إلَى رَكُوبِ الْبَحْرِ وَإِنْ أَدَّى إلَى تَضْيِيعِ بَعْضِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ لِمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ رَكُوبِهِ لِلْجِهَادِ وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْجِهَادِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَالْقِيَامُ بِهَا أَشْرَفُ مِنْ الْقِيَامِ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْقِيَامِ بِالتَّوْحِيدِ كُفْرٌ وَعَدَمُ الْقِيَامِ بِالصَّلَاةِ لَيْسَ بِكُفْرٍ عَلَى الْمَعْرُوفِ وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ وَالْحَجُّ مَعَ الصَّلَاةِ بِالْعَكْسِ إذْ هِيَ أَفْضَلُ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْجِهَادِ