حَمَلَ ابْنُ عَرَفَةَ كَلَامَ ابْنِ الْحَاجِبِ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَسَمِعَ يَحْيَى يَجِبُ بَيْعُهُ قَرْيَةً لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا لِحَجِّهِ، وَيَتْرُكُ وَلَدَهُ لِلصَّدَقَةِ ابْنُ رُشْدٍ إنْ أَمِنَ ضَيْعَتَهُمْ، وَنَقْلَ ابْنُ الْحَاجِبِ لَا يُعْتَبَرُ ضَيَاعًا أَوْ ضَيَاعَ مَنْ يَقُوتُ لَا نَعْرِفُهُ انْتَهَى.
(قُلْت) وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ الضَّيَاعُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْمُصَنِّفِ فِي مَنَاسِكِهِ بِالتَّكَفُّفِ وَلَوْ لَمْ يَخْشَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى أَوْلَادِهِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ بِقِيلَ فِي كَلَامِهِمَا هُوَ اخْتِيَارُ اللَّخْمِيِّ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَأَرَى أَنْ يُقِيمَ مَعَهُمْ إلَى آخِرِهِ لَكِنْ يَبْقَى الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فِي كَلَامِهِمَا مُحْتَاجًا إلَى التَّقْيِيدِ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ وَعَزَا ابْنُ عَرَفَةَ الْمَسْأَلَةَ لِسَمَاعِ يَحْيَى وَلَمْ أَرَهَا إلَّا فِي سَمَاعِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ وَعَزَا الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ لِأَبِي الْقَاسِمِ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ وَهَكَذَا قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ قَالَ: وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّرَاخِي فَيُعْتَبَرُ مَا يُنْفِقُهُ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ وَمَا يُنْفِقُهُ عَلَى مَنْ يَخْلُفُهُ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ حِرْفَةٌ تُوَصِّلُهُ وَتَعُودُ بِهِ فَيُعْتَبَرُ مَا يَخْلُفُهُ لِنَفَقَةِ أَهْلِهِ، وَسَيَأْتِي كَلَامُهُ بِرُمَّتِهِ فِي التَّنْبِيهِ الَّذِي بَعْدَهُ.
(الثَّانِي) تَقَدَّمَ كَلَامُ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّ حُكْمَ نَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ حُكْمُ نَفَقَةِ الْوَلَدِ، وَأَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ فَقَالَ اللَّخْمِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَصَاحِبُ الطِّرَازِ: إنْ قُلْنَا: الْحَجُّ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَجِدَ مَا يَتْرُكُهُ لَهَا وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِنْ شَاءَتْ صَبَرَتْ وَإِنْ شَاءَتْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا، وَلَفْظُ اللَّخْمِيِّ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَهُ مِنْ الْمَالِ كِفَافُ حَجَّةٍ فَإِنْ خَلَفَ مِنْهُ نَفَقَتُهَا لَمْ يَبْلُغْهُ الْبَاقِي وَإِنْ لَمْ يَخْلُفْ النَّفَقَةَ قَامَتْ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَحُجُّ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِمَهْلٍ حَتَّى يَجِدَ انْتَهَى.
وَلَفْظُ صَاحِبِ الْبَيَانِ فِي رَسْمِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ وَلَوْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ فَهُوَ إنْ تَرَكَ عِنْدَهَا نَفَقَةً لَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَحُجُّ بِهِ وَإِنْ خَرَجَ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهَا نَفَقَةً طَلَّقَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي؟ وَلَفْظُ صَاحِبِ الطِّرَازِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ عِنْدَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَقُلْنَا: الْحَجُّ عَلَى التَّرَاخِي اُعْتُبِرَ قُدْرَتُهُ عَلَى مَا يُنْفِقُهُ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ وَمَا يُنْفِقُ عَلَى مُخَلَّفِيهِ فِي غِيبَتِهِ هَذَا إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حِرْفَةٌ فِي سَفَرِهِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حِرْفَةٌ تُوَصِّلُهُ وَتَعُودُ بِهِ اُعْتُبِرَ مَا يُتْرَكُ لِنَفَقَةِ أَهْلِهِ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَهُمْ أَحْوَجُ إلَيْهَا، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» . هَذَا عَلَى قَوْلِنَا: إنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي فَيَكُونُ حَقُّ الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ تَقَدَّمَا عَلَيْهِ كَمَا يُقَدَّمُ عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَى الْفَوْرِ كَانَ أَوْلَى مِنْ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ لَمْ تَتَعَيَّنْ إنْ شَاءَتْ صَبَرَتْ وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْ، وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ مُوَاسَاةٌ تَجِبُ فِي الْفَضْلَةِ فَلَا يُتْرَكُ لَهَا مَا تَعَيَّنَ فِعْلُهُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِيمَنْ لَا يَمْلِكُ إلَّا قَرْيَةً وَلَهُ وَلَدٌ قَالَ: يَبِيعُهَا لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ وَيَدَعُ وَلَدَهُ فِي الصَّدَقَةِ انْتَهَى.
((قُلْتُ)) وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ مِنْ مُفَارَقَتِهَا بِأَنْ يَقَعَ فِي الزِّنَا مَعَهَا أَوْ مَعَ غَيْرِهَا فَيُقَدِّمُ نَفَقَتَهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّنْبِيهِ الَّذِي بَعْدَهُ وَعَزَا بَيْعَ الْقَرْيَةِ الَّتِي لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا لِابْنِ الْقَاسِمِ كَمَا فَعَلَ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لِمَالِكٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) مَنْ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ لِلْحَجِّ أَوْ لِلزَّوَاجِ فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ الْحَجَّ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ تَأْخِيرُهُ إلَّا أَنْ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ فَيَتَزَوَّجُ وَيُؤَخِّرُ الْحَجَّ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ الْعَنَتَ وَقَدَّمَ التَّزْوِيجَ أَثِمَ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَرْأَةِ الصَّدَاقُ. قَالَ فِي رَسْمِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ: وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ أَيَتَزَوَّجُ أَوْ يَحُجُّ؟ قَالَ: بَلْ يَحُجُّ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ فَالْحَجُّ آكَدُ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَأَمَّا عَلَى الْفَوْرِ فَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ دُونَ التَّزْوِيجِ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيُؤَخِّرَ الْحَجَّ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ آثِمًا وَلَمْ يُفْسَخْ النِّكَاحُ وَلَا يُؤْخَذُ