بِتَفْسِيقِ مَنْ صَحَّتْ عَدَالَتُهُ وَدِينُهُ وَأَمَانَتُهُ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ انْتَهَى.
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ: إنَّهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: إذَا قُلْنَا: يَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَهُ تَأْخِيرُ مَا لَمْ يَخَفْ عَجْزَهُ عَنْهُ كَمَا يَقُولُ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا إذَا اخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ أَنْ لَا يَعْصِي وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَإِنَّهُ مَتَى يَخَافُ الْفَقْرَ وَالضَّعْفَ وَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ وَعَصَى وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنْ يُعَلَّقَ الْحُكْمُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] وَإِنَّمَا أَرَادَ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إذَا أَخَّرَهُ وَهُوَ شَابٌّ مُقْتَدِرٌ وَفِي نِيَّتِهِ فِعْلُهُ فَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا طَرَأَ عَلَى مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ فَلَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْثَمُ بِكُلِّ حَالٍ وَإِنَّمَا جُوِّزَ لَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، كَمَا جُوِّزَ لِلْمُعَلِّمِ ضَرْبُ الصِّبْيَانِ وَلِلزَّوْجِ ضَرْبُ الزَّوْجَةِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ مَتَى يَعْصِي؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِتَأْخِيرِهِ عَنْ أَوَّلِ سَنَةِ الْقُدْرَةِ إذْ التَّأْخِيرُ عَنْهَا إنَّمَا جَازَ بِشَرْطٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْصِي بِتَأْخِيرِهِ عَنْ آخِرِ سَنَةٍ لَمْ يُمْكِنْهُ الْحَجُّ بَعْدَهَا انْتَهَى.
وَرَأَى بَعْضُهُمْ الْأَوَّلَ، وَالثَّانِي عَائِدًا عَلَى الشَّافِعِيَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَرَافِيُّ فِي ذَخِيرَتِهِ وَنَحْوُ هَذَا ذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَنَصُّهُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ وُجُوبُهُ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُكَلَّفِ فَوَاتُهُ. وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى إبَاحَةُ التَّعْزِيرِ لِلْإِمَامِ ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا أَخَّرَ الرَّجُلُ حَجَّهُ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْعَجْزُ عَنْهُ يُعَدُّ عَاصِيًا وَإِنْ اخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوَاتُ فَلَيْسَ بِعَاصٍ وَمَعْنَى هَذَا أَنْ يَبْلُغَ الْمُكَلَّفُ الْمُعْتَرَكَ فَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ أَوْ تَكُونَ الطَّرِيقُ آمِنَةً فَيَخَافُ فَسَادُهَا أَوْ يَكُونَ ذَا مَالٍ فَيَخَافُ ذَهَابَ مَالِهِ بِدَلِيلٍ يَظْهَرُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنْ عَجَّلَهُ قَبْلَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْ يَبْلُغَ الْمُعْتَرَكَ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ، وَتَعْجِيلُهُ نَفْلٌ كَالصَّلَاةِ الَّتِي تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا فَإِنْ عَجَّلَهَا فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ وَتَعْجِيلُهَا نَفْلٌ انْتَهَى.
فَلَمَّا تَرَجَّحَ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ تَجْدِيدَهُ بِخَوْفِ الْفَوْتِ لَا بِسِتِّينَ سَنَةٍ كَمَا قَالَ سَحْنُونٌ: جَزَمَ بِهِ فَقَالَ لِخَوْفِ الْفَوَاتِ لَكِنْ مِنْ خَوْفِ الْفَوَاتِ بُلُوغُ السِّتِّينَ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِّ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ حَيْثُ قَالَ: وَمَعْنَى هَذَا أَنْ يَبْلُغَ الْمُكَلَّفُ الْمُعْتَرَكَ أَيْ مُعْتَرَكَ الْمَنَايَا وَهُوَ مِنْ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ، قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَتُسَمِّيهَا الْعَرَبُ دَقَّاقَةَ الرِّقَابِ انْتَهَى.
فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إذَا خِيفَ الْفَوَاتُ بِبُلُوغِ السِّتِّينَ مُعْتَرَكَ الْمَنَايَا أَوْ بِغَيْرِهِ تَعَيَّنَ عَلَى الْفَوْرِ اتِّفَاقًا وَإِذَا لَمْ يَخَفْ الْفَوَاتَ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ نَقَلَ الْعِرَاقِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ وَرَأَوْا أَنَّهُ الْمَذْهَبُ وَشَهَرَهُ الْقَرَافِيُّ وَابْنُ بَزِيزَةَ وَمُصَنِّفُ الْإِرْشَادِ وَشَهَرَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ مِنْ الرِّسَالَةِ التَّرَاخِي وَقَالَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مِنْهَا: إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَالْبَاجِيّ وَابْنُ رُشْدٍ والتِّلِمْسَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمَغَارِبَةِ يَرَوْنَ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ وَأَخَذُوهُ مِنْ مَسَائِلَ فَأَخَذَهُ اللَّخْمِيُّ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: لَا تَخْرُجُ إلَيْهِ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ الْوَفَاةِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ فَوْرًا إجْمَاعًا انْتَهَى.
وَأَخَذَهُ اللَّخْمِيُّ أَيْضًا وَابْنُ رُشْدٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ يُؤَخَّرُ إذْنُ الْأَبَوَيْنِ الْعَامَ وَالْعَامَ الْقَابِلَ فَإِنْ أَذِنَا لَهُ وَإِلَّا خَرَجَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ تَعَجَّلَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ مَعْصِيَةٌ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، فَقَدْ نُقِلَ فِي النَّوَادِرِ رِوَايَةٌ أُخْرَى بِالْإِعْجَالِ عَلَيْهَا، الثَّانِي أَنَّ طَاعَةَ الْأَبَوَيْنِ لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْفَوْرِ بِاتِّفَاقٍ وَكَانَ الْحَجُّ مُخْتَلَفًا فِي فَوْرِيَّتِهِ قُدِّمَ الْمُتَّفَقُ عَلَى فَوْرِيَّتِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّأْخِيرِ لِوَاجِبٍ أَقْوَى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْفَوْرُ غَيْرَ وَاجِبٍ انْتَهَى.
وَهَذَا الْجَوَابُ الثَّانِي لِابْنِ بَشِيرٍ وَرَدَّهُ ابْنُ عَرَفَةَ فَقَالَ: يُرَدُّ بِقَوْلِهَا: إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ فَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ حَيْثُ شَاءَ وَسَمَاعَ الْقَرِينَيْنِ: سَفَرُ الِابْنِ الْبَالِغِ بِزَوْجَتِهِ وَلَوْ إلَى الْعِرَاقِ وَتَرْكُ أَبِيهِ شَيْخًا كَبِيرًا عَاجِزًا