ينظر، وهو أحقُّ بها من بعض من أدركهم من الخلفاء- لكنَّ مفعول هذه الوصية ما زال قويًّا حتى لقي ربَّه زاهدًا عابدًا ورعًا، وراغبًا فيما عند الله، معرضًا عن هذه الدنيا إعراض القادر على نيلها وحيازتها.
لقد فقه ابن عمر رضي الله عنهما هذا المعنى عمليًّا - كما تقدم - وفقهه علميًّا؛ ولذا كان يقول بعد أن روى لتلاميذه تلك الوصيَّة النبويَّة: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصَّباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحَّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»، وممَّن خصهم بذلك تلميذه النجيب مجاهدٌ رحمه الله حيث قال له: «يا مجاهد، إذا أصبحت فلا تحدِّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدِّث نفسك بالصباح، وخذ من صحَّتك قبل سقمك، ومن حياتك قبل موتك؛ فإنَّك لا تدري ما اسمك غدًا!» (?).
لقد كانت وصية ابن عمر لمجاهدٍ تفسيرًا لما سمعه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى لا يتوهَّم متوهمٌ أنَّ معنى قوله: (كن في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو عابر سبيلٍ) أن يتخلَّى عن كلِّ أسباب الحياة الكريمة، وألَّا يبني له دارًا تؤويه وأهله؛ لأنَّ عابر السبيل كذلك! ولا يتَّخذ له إخوةً يجالسهم ويأنس بهم؛ لأنَّ الغريب كذلك! فبيَّن راوي الحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ هذا ليس مرادًا من قول المعصوم - عليه الصلاة والسلام- وإنَّما مراده: أن يبقى دائم التيقُّظ والترقُّب ليوم الدِّين والحساب، فمن كان كذلك، أكثر ذكر الموت؛ فأحسن السَّير إليه، واستعان بما وهبه الله من النِّعم على تحسين وقوفه هناك بين يديه.
يقول ابن الجوزيِّ رحمه الله: «من الناس من يثبت الدليل، ولا يفهم المقصود الذي دلَّ عليه الدليل! ومن هذا الجنس قومٌ سمعوا ذمَّ الدُّنيا