فتأمَّل كيف لم ينف عنهم الوقوع في الفواحش، فضلًا عن غيرها من الذنوب؛ وإنَّما نفى عنهم الإصرار؛ لأَّن لسع الذنب مستمرُّ على القلب، فلا يرتاح إلا إذا أقلع وأناب.
وإنَّ من الأمثلة المدهشة في هذا المعنى: قصة المرأة الغامديَّة التي زنت، وأصرَّت على إقامة الحدِّ، مع أنَّ لها ولدًا من الزنى، إلا أنَّ حرارة الذنب استمرَّت معها قرابة ثلاث سنواتٍ، وهي تتردَّد على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من أجل الرغبة في التطهير، مع أنَّها لو استترت بستر الله، وتابت فيما بينها وبين الله لم يطالبها أحدٌ .. لكنَّه القلب الحيُّ، الذي استعظم ذنبه وخطيئته، فلم يرض إلا بتطهيرٍ يريح ضميره الذي ما زال يؤنِّبه، فأقيم عليها الحدُّ، فشهد لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّها (تابت توبةً لو تابها صاحب مكسٍ، لغفر له)، بل قال -كما في الرواية الأخرى لمَّا استغرب الفاروق - رضي الله عنه - صلاة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عليها: (لقد تابت توبةً لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة، لوسعتهم؛ وهل وجدتَّ توبةً أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى؟) (?).
لقد كان السلف كثيري التذكير بهذا المعنى؛ لعلمهم بأنَّ الإنسان إذا تساهل بالصغيرة، فلا يبعد أن يتساهل بما هو أعظم، استنادًا إلى جملةٍ من الأحاديث الواردة في هذا الباب.
ويشبه قول ابن مسعودٍ هذا قول أنسٍ - رضي الله عنه -: «إنَّكم لتعملون أعمالًا هي أدقُّ في أعينكم من الشَّعر، إن كنَّا لنعدُّها على عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات»، قال البخاريُّ: (يعني بذلك: المهلكات)» (?).
وقد بوَّب البخاريُّ على هذا الأثر بقوله: «باب ما يتَّقى من محقَّرات الذُّنوب»؛ يشير بذلك إلى ما رُوي من الأحاديث المرفوعة في