وليس هذا القيد -وهو الالتزام بالغاية- معوقًا للبحث العلمي كما قد يبدو لأول وهلة. بل العكس هو الصحيح. ففي ظل هذا القيد أو بالأحرى تلك "القيمة" العليا من قيم الحياة البشرية قامت -وأوربا في عصورها الوسطى المظلمة- أكبر حركة علمية في الأرض، هي التي أهدت للبشرية المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي تقوم عليه كل النهضة العلمية المعاصرة في الغرب. بل كان هذا القيد، أو بالأحرى تلك "القيمة" العليا بالذات، هي التي حولت العلم من تياره النظري الذي كان موروثًا عن اليونان إلى تياره العملي والتجريبي الذي صار إليه فيما بعد، وحدث على أثره كل ما حدث من التقدم في مجال العلم، وانتهت السفسطات الفلسفية التي كانت في نظر المسلمين من الجدل المنهي عنه، واتجه العلم إلى غاياته العملية التي صار إليها اليوم.
حقيقة إن هدف العلم في الإسلام هو -كما قلنا- إحسان العبادة لله -أي: خدمة الله- وهدفه في الجاهلية المعاصرة هو خدمة الإنسان "نظريًّا على الأقل، وإلا فإن قسطًا غير قليل من هذا العلم موجه إلى تدمير الإنسان"! ولكن حماقة الجاهلية المعاصرة هي التي تجعل من خدمة الله وخدمة الإنسان هدفين متعارضين أو في القليل متغايرين! ومزية المنهج الإسلامي الشامل أنه يزيل هذا التعارض الوهمي "إذ لا تعارض في حقيقة الأمر حين يستقيم الإنسان على وضعه السوي" ويجعل خدمة الإنسان -في حدودها السوية- جزءًا من خدمة الله. لأن خدمة الله هي تنفيذ أوامره على وجهها الأكمل، ومن أوامر الله عمارة الأرض وتحقيق المطالب اللازمة للإنسان السوي. إنما يحدث التعارض بين خدمة الله وخدمة الإنسان حين يصر الإنسان على اتباع شهواته واتباع هواه بدلًا من منهج الله. عندئذ يحدث التعارض بالفعل لأن خدمة الله تصبح قيدًا يقيد تلك الشهوات. ولكن تجربة التاريخ تقول إن الإنسان حين يرفض هذا القيد الرباني على شهواته قد "يستمتع" لفترة من الوقت متاعًا زائدًا عن الحد، ولكنه يدمر نفسه في النهاية حين تجرفه الشهوات فلا يملك قياده منها، ويتحلل كيانه ويفسد، ويعجز عن الوفاء بمطالب "الإنسان" في أفقه الأعلى. لأنه يعيش على مستوى الحيوان. فلا يخدم نفسه في الحقيقة إنما يسعى إلى تدميرها، ولو جاء الدمار بعد أجيال. فالبشرية كيان ممتد لا يقف عند فرد بعينه ولا عند جيل، ولا ينبغي لفرد -ولا لجيل- أن يعمل على دمار أجيال تأتي بعده لمجرد أن يستمتع هو متاعًا زائدًا عن الحد.